آخر تحديث :الثلاثاء-30 أبريل 2024-11:53ص

ملفات وتحقيقات


الفنان العدني عصام خليدي.. إحساس مرهف.. إبداع متدفق.. صوت شجي .. والمقابل وطنا تجاهله

الأحد - 08 سبتمبر 2013 - 12:58 م بتوقيت عدن

الفنان العدني عصام خليدي.. إحساس مرهف.. إبداع متدفق.. صوت شجي .. والمقابل وطنا تجاهله
صورة نادرة ولأول مرة تنشر في وسائل الإعلام تجمع الفنان الخليدي والراحل محمد عبده زيدي في العام1990م - عدن الغد

لودر (( عدن الغد )) خاص

محطات يكتبها: ــ فهــد علي البرشاء

لم تكن يوم الكلمات عصية عليّ .. ولم تخذلني المشاعر قط.. ولم تتبلد أحاسيسي مطلقا.. ولم يتجمد حبر قلمي على صدر صفحاتي.. ولم تطوى صفحاتي قبل أن أكمل ما يعتمل في صدري من مشاعر وأخط ما تحمله بين ثناياي من أحاسيس على صدر صفحاتها.. بل أني لا أجد صعوبة البتة في أن أعيش في عالم آخر وأنسج منه قصص وروايات وأنقل منه معاناة وأرسم على صدر الزمان الآلام وأوجاع الغير,لمجرد أن أنخرط في هذا العالم وأسري بين ثنايا تلك المعاناة حتى وإن لم أعشها.. لانها جميعا سهلة المنال وبسيطة المعنى و بمقدور أي إنسان أن يخط عنها إن غاص عميقا ,عميقا في خلجاتها وبين طياتها..

 

ولكن هذه المرة أعلن للكل أني عاجز,مبلد الأحاسيس, معطل المشاعر , مثكل الأنامل , شارد الذهن, مشتت الأفكار.. لا أقوى على لملمة أفكاري والسيطرة على قواي التي تمردت عليّ وأعلنت العصيان.. ومشاعري التي تعطلت وأبت أن تخضع وتنصاع لأوامري وتنفذ رغبتي في أن تخط أناملي وتسكب حبر قلمي على صدر صفحاتي, وتعبر عن ما يعتمل بين جوانحي عن هامة إنسانية ملكت القلوب وأسرت الأفئدة وسكنت سويداء القلب وألهبت الحماس وحركت المشاعر وسلبت العقول والألباب حينما تراقص أوتار العود وتغازل الكلمات لحنا, شعراً , طربا , نثراً , أدبا..

 

هامة شامخة  لا تنحني

هامة  لم تنحني أو تطأطئ من قامتها رغم المعاناة التي عاشتها بكل فصولها , ورغم الجحود والنكران لها من كل المعنيين الذين دأبوا لأن يحنطوها ويلحقوها بركب من استسلموا لمحاولات الإحباط والتجاهل والتدمير وباتوا صرعى للألم والمعاناة والقهر والانسحاق والبؤس الذي ظل يلازمهم حتى قضوا نحبهم وفارقت أرواحهم أجسادهم وغدوا جثث هامدة يندبها كل من عرفها وعاشرها طيلة مشوارها الفني أو الأدبي أو حتى الوطني..

 

هامة  ظلت شامخة شموخ الجبال, تصارع , تكابد , تتحمل من أجل أن تظل تعطي بسخاء ويظل ينبعوها لا ينضب ,ولتسير على درب الإبداع والأصالة والعطاء المتدفق كمدينته التي لم تبخل يوما بشيء عن الوطن شمالا وجنوب.. ظل شامخا لانه يعي أن الانكسار والخضوع معناه الموت البطيء, معناه الاندثار والضياع في تلابيب الحياة التي لا يرحم أسياده من ينكسر أو يخضع أو يستلم لطقوس تجاهلهم وتدميرهم ونكرانهم لكل من نفض عن جسده غبار الإحباط والانصياع لأملائتهم التي لا تتعدى أن يقول بلسانهم أو يصدح في مجالسهم أو يلمعهم ويرفع من قدرهم ويعظم أمجادهم الزائلة والهشة..

 

 

 

 

قال أنا ( فنان) خلقت لأن أسير على درب أسلافي وأجدادي وأجدد موروثهم وأحافظ على أمجادهم التي منحت الإنسان ذات يوم سعادة غامرة وفرحة عارمة وزرعت الابتسامة على الشفاه ولامست القلوب وداعبت الأحاسيس وعزفت على أوتار القلوب أجمل ( سيمفونيات) الحب والعشق الصادق  , بل أبكت القلوب قبل العيون كلما تغنت عن الحب , عن الوطن , عن الحياة..

 

 

 

 

عصام خليدي.. أبن عدن البار .. النبع الذي لا ينضب عطاءه .. الصوت الذي يلامس شغاف القلوب ويأسر الألباب ويسبي العقول.. الصوت الذي تتدفق بمجرد أن تسمعه المشاعر وتنساب كشلالات فتيه.. وحينما يراقص أوتار عوده تهطل دمعات العود وتنتحب حناياه وتنوح الأنامل التي تعزف بشاعرية مطلقة وإحساس مرهف قلما تجد مثله.. فتتماوج الدواخل وتتمايل الأجساد حينما يشدوا ويغرد بصوته الملائكي وتتمتم شفتاه كلمات أغنياته التي تحمل فيض من المشاعر والأحاسيس والدفء والحنان والعطف والحب الخالص لكل شيء تغنى من أجله..

 

بدايات قوية ... ونجومية مطلقة

صدح في العام1979م وهو لازال في رعيان الشباب والعنفوان وكان لصوته الغض الطري وقعا في النفوس والدواخل ولكلماته التأثير الكبير على كل من كان يسمعه فهبت الجماهير وانتفضت من أمكانها وتعالت الصيحات والصرخات والتهبت المشاعر والأحاسيس وهاجت العواطف وقال الكل وبصوت واحد ( لا فض فوك ) وكان لهذه الكلمة الوقع الأكبر في دواخل الخليدي الذي لم يبحث يوما عن شهرة أو جاه أو سلطان, فلم يكن منه إلا أن شمر عن ساعديه وخطئ خطواته نحو سلم الإبداع والتألق والتميز تحفه المباركات وترافقه الدعوات وتحثه المحبة لمدينته التي كانت بوابة الجزيرة والوطن آنذاك بمدنيتها وطيبتها وإنسانية أهلها الذين لا يعرفون سوى الفن والإبداع والمشاعر والأحاسيس والصدق والعطاء كشواطئها  الوضاءة..

 

فتوسم في الــ30 من نوفمير من العام 1987وسام الدولة من ( الدرجة الأولى ) كأحسن صوت في مهرجان الفنون السابع المقام على خشبة المسرح الوطني في التواهي وتقديرا لإسهاماته الفنية ولقدراته الأدائية في الأداء الصوتي والإبداع والإجادة في مختلف الألوان الغنائية واللهجات اليمنية بخصوصية وتفرد واقتدار وفذاذة..

 

 

فضاءات الإبــــــــــداع

ومن هناء حلق ( الخليدي ) عاليا في فضاءات الإبداع والتميز والفن وبدأت رحلة حصاد الألقاب والشهرة تتوالى عليه ليس لانه كان يبحث عنها ولكن لانه أعطى بسخاء وبصدق وبشاعرية جعلت كل من حوله يرفعون القبعات احتراما وإجلالا لشخصه ولهامته الفنية التي رغم صغرها وحداثتها إلا أنها استطاعت أن ترتقي من الثرى إلى الثرياء وتنافس وبقوة أولئك العمالقة الذين أثروا الساحة (العدنية) بالعديد من الإعمال الفنية القيمة وذات الجودة العالية الخالصة من شوائب الحداثة (المسخ) في زمننا هذا.. فحاز  على لقب فنان ومحلن وشاعر بدرجة (امتياز) معتمد من إذاعة وتلفزيون عدن في العام 1980م بعد أن دخل مضمار المنافسة الفنية بقوة من كافة النواحي أكان في الشعر أو الغناء أو اللحن وهو ما جعله محط أنظار الكل وإعجابهم وتهافتهم نحوه..

 

وهذا أيضا منحه شهرة كبيرة سنحت له في المشاركة في العديد من المشاركات الفنية وفي كل المناسبات الوطنية وبأعلى مستوياتها الإبداعية منذ أن وطأت قدماه خشبة الفن ( العدني ) الذي كان رائدا فيه وقائدا ومشرفا عاما فنيا وموسيقيا وغنائيا في عدد من الفرق الموسيقية وقدم لها العديد من الإعمال والألحان الفردية , والجماعية , و الإنشادية الناجحة والتي وثقت في أجهزة الإعلام اليمني..

 

جامعة عدن .. نقلة نوعية

ولم تتوقف رحلة الشهرة والتألق للفنان (الخليدي) هناء فقط بل فتحت له العديد من الأبواب وتلقته العديد من المناصب التي كانت تبحث عن من يقودها بصدق وإحساس وشاعرية فتقلد قيادة الفرقة الفنية الموسيقية المركزية في جامعة عدن خلال العام1997م حتى العام2003م, واستطاع بخبرته الفنية وإمكانياته الإبداعية وملكاته الربانية أن يخرجها من النشاط الصفي التقليدي الرتيب في أطار الجامعة ويقدمها في الاحتفالات المركزية والوطنية الرسمية في عموما الوطن, حقق بهذا العمل وتلك الجراءة التي لم يمتلكها غيره ولم يقدم عليه أحد قبله نجاح منقطع النظير, كما ساعدته هذه الخطوة الجبارة والعملاقة التي قام بها في أن يكتشف العديد من المواهب والأصوات الفنية الشابة التي كانت تمتلك خامات صوتية رخيمة وممتازة فقدم لها العديد من الأعمال والألحان الخاصة إيمانا منه بقدراتها الفنية وإمكانياتها الصوتية ولم يبخل عليها بشيء وهو الأمر الذي جعل من (الخليدي) محط حب واحترام الكل من الطلاب والأساتذة وعامة الناس في ربوع الوطن..

 

التحول والنقد الفني

الخليدي رغم الإمكانيات المادية البسيطة التي كان يعيشها والظروف الصعبة آنذاك وكذلك التجاهل والإجحاف الذي لحق به لم يتوقف أو يستسلم قط, بل واصل مشواره الفني والأدبي وحاول اللحاق بركب الفنانين الذي ملئوا الساحة الفنية داخليا وخارجيا ولكن بطريقته الخاصة وبالحفاظ على هويته العدنية الجنوبية وخصوصيته الفنية التي تفرد بها دون غيره فكان من الفنانين اليمنيين الأوائل الذين قدموا الأغنية اليمنية بشكلها الحديث (الفيديو كليب) الهادف الذي يحمل قيمة أدبية وفنية ومضمون له خصوصية يمنية أصيلة بعيدا عن الفن الهابط الذي لايتعدى تمايل الأجساد وعريها وسفورها دون أن يكون لها أي مدلول أو قيمة, وقد حصل على شهادة تقديرية بذلك الخصوص من تلفزيون (المستقبل) في لبنان عام2000م على أغنيتيه (الحلم) و(صبي يامطر) المصورة بطريقة الفيديو كليب للمخرج المبدع الأستاذ/ جميل علي عبيد..

 

ولم يكن هم (الخليدي) وشغله الشاغل الصوت واللحن فقط بل دأب لكتابة الكثير من القراءات النقدية والأدبية والموسيقية الجادة والموضوعية العلمية والنقدية والدراسات المنهاجية لرواد الغناء نشرت في معظم الصحف والمجلات اليمنية والعربية بشكل متواصل ونوعي صادق وبطريقة جميلة جدا تجبر القارئ على قراءتها بشغف وجنون إن لم يبتلعها لما تحمله في طياتها من شرح مفصل وقراءة جميلة ونقدية وبأسلوب أدبي جميل يحمل الكثير من المعاني والدلالات الأدبية التي تفرد بها الخليدي بأسلوبه ( السهل الممتنع)..

 

 

 

 

العمالقة والحان الخليدي

ولان الخليدي تفرد في كل شيء وأمتاز بصوته العذب الشجي والحانه التي تطرب لها الآذان وتستعذبها الأرواح هرع معظم الشعراء الكبار بأشعارهم وقصائدهم لفناننا المبدع الخليدي فصاغها نغما صافيا عذبا بالحانه المتميزة الراقية  التي تمتاز بطابع العذوبة والرقة والإحساس ومن هؤلاء الشعراء الكبار تنذكر أحمد الجابري . محمد سعيد جراده, محمد سعد عبدالله , عبدالرحمن السقاف,علي عمر صالح, والشاعر مبارك حسن خليفة.. إضافة لما قدمه الفنان عصام خليدي من ثنائيات فنية مشهودة ومعروفة في ساحة الغناء اليمني مع الفنانين الكبار الذين قدموا لصوت الخليدي  العديد من الألحان ورأوء في صوته مستقبل للغناء ومايزيد من شعبيتهم  وتوسع قاعدة محبيهم ومعجبيهم, ونذكر من هؤلاء العمالقة على سبيل الذكر لا الحصر الفنان / محمد مرشد ناجي , والفنان/ محمد سعد عبدالله , والفنان/ أحمد بن احمد قاسم , والفنان/ محمد عبده زيدي والفنان أحمد باقتادة والفنان أحمد محمد ناجي..

 

القرن الماضي .. إبداع متدفق

وبالعودة إلى (ثمانينات) و( تسعينيات ) القرن الماضي فقد حقق (الخليدي) حضورا فنيا كبير جدا (كملحن) وقام بتبني العديد من الأصوات النسائية التي شهدتها الساحة الفنية آنذاك ورفدها ودعمها بالعديد من الأعمال والألحان ومن تلك الأصوات البديعة والرائعة التي قدم لها الألحان الفنانة / نوال محمد حسين في أغنيتي ( راعي وحطابة ) و( وين أشتكي بس ياعالم ) التي حققت نجاحا وشهرة كبيرة بالإضافة لما قدمه للفنانة الراحلة صاحبة الصوت الرخيم والعذب ( منى همشري) التي قدم لها عملين غنائيين الأول بعنوان ( ياقلب كفاية ) والثاني بعنوان ( لا تشتكي من حبيبك ) كما قدم للفنانة إيمان إبراهيم أغنيتين في غاية الروعة والجمال الأولى (يا دنيا ) والأخيرة رائعة وأنشودة (ياصوت نابع من ضمير).. ولاننسى تعامله الملفت والمبهر مع الفنانه المبدعة / أمل كعدل في أغنيتي ( دل الرشاء) و( رغم السنين )

 

كما شكل (الخليدي) ثنائية فنية متألقة مع الفنان الكبير محمد سعد عبدالله في بداية التسعينيات من القرن الماضي وقدم له (بن سعد ) ثلاثة نصوص غنائية قام الخليدي بوضع الألحان لها واللمسات الفنية التي شكلت نسيجا فنيا ووحدة إبداعية مترابطة ومتمازجة مع كلمات وأشعار الفنان الراحل محمد سعد عبدالله وقدمها الخليدي بصوته المخملي الرقيق الحساس التي لاقت شهرة وحضور وإعجاب جماهيري كبير آنذاك..

 

خاتمة مؤلمة

ورغم هذا العطاء المتدفق والسخاء على مستوى الوطن والذي قدمه الفنان الخليدي منذ بداياته الفنية والإبداعية,وذلك الصدق والتفاني الذي عُرف به الخليدي إلا أنه لم يحظى بما ينبغي أن يحظى به أي إنسان خدم الوطن وقدم له الكثير من الأعمال التي نسجها من مشاعره وخطه بدم قلبه ونحته على جدران جسده.. وتجاهل المعنييون ولم تقدم الدولة ممثلة بوزارة الثقافة والإعلام التكريم اللائق المستحق للفنان الأديب متعدد الملكات عصام خليدي حتى كتابة هذه السطور رغم ماجاد به الخليدي من إبداعات متميزة وإستثنائية في زمننا الحاضر زمن القحط الفني والإبداعي

وهذا ليس بغريب في وطن صُدر فيه كل شيء وبات خاص ومفصل لكل من يحمل الحصانة من المسألة وكل من لدية اليد الطولى في أجهزة الدولة فلا يذكر الفنان أو المبدع أو المتألق في هذا الوطن إلا بعد أن يغدوا جثة هامدة لا حراك فيها , وبعد أن تنهال على جسده حفنات التراب ويحتضنه منزلة الأخير, وإن ذكر فلا يذكر إلا بشهادة ورقية لن تحييه وهو رميم ولن تخلد مجده الذي منحه الوطن ذات يوم..

الخليدي اليوم لا تتذكره الدولة العظيمة ولا تتذكره وزارتها المعنية بالفن والفنانين لانها لاتهتم بمن عفى عليهم الزمن وبما قدموا دون أن ينتظروا مقابل والذين يدركون معنى وجودهم والغاية من أعمالهم وحياتهم.. بل تتذكر أولئك الذين تمتد أيادي ذويهم وأهاليهم الذي يمتلكون ( أكتاف) في الدولة وتجزل لهم العطاء والبذل وتعظمهم وتصنع لهم التماثيل والمجسمات وهم لا يستحقونها..

الخليدي لا ينتظر شفقة أو رحمة من أحد أو (ريالات) هزيلة بائسة لا تسمن ولاتغني من جوع فهو كبير بعطائه وسخاءه وفنه الذي لن يندثر أو يتلاشى مهما تعاقبت عليه السنون, ولكن أقل القليل كان حريا بالمعنيين في الوطن أن يخلدوا فن الخليدي بكلمة شكرا تشعره أنه حيا في نفوس أسياد هذا الوطن البائس وتخبره أن ما قدمه لم ولن يذهب هباء منثور..