آخر تحديث :الجمعة-03 مايو 2024-01:37ص

ملفات وتحقيقات


الرئيس علي ناصر : عندما أصبحت رئيساً لليمن الديمقراطي ما بين عامي 1980 – 1986 اتهمت بالخروج من الدائرة الحمراء إلى الدائرة العربية.. فما هي اصابع الاتهام ؟؟

الأربعاء - 04 مارس 2020 - 12:11 م بتوقيت عدن

الرئيس علي ناصر : عندما أصبحت رئيساً لليمن الديمقراطي  ما بين عامي 1980 – 1986 اتهمت بالخروج من الدائرة الحمراء إلى الدائرة العربية.. فما هي اصابع الاتهام ؟؟

(عدن الغد)خاص:

"عدن الغد " تنفرد بنشر مذكرات  ( القطار .. رحلة إلى الغرب ) للرئيس علي ناصر محمد   (الحلقة 29)

متابعة وترتيب / الخضر عبدالله :

الأجهزة الأمنية الألمانية ونفراج المأزق

ويواصل  لنا الرئيس ناصر عن بقية تفاصيل  ما تعرض له من مأزق لا ينسى ونفراجه  خلال رحلته حيث يقول :" طلبت منه أن يغادر القطار في أول محطة يقف فيها ويستقل سيارة أجرة على جناح السرعة إلى المحطة التي كنا موجودين فيها وأخبرته أين نحن بالضبط.

تنفيذ الطلب الذي طلبته كان مستحيلاً... فالمسافة التي تفصلنا عنه بعيدة جداً

أخبرني فيما بعد أنه كان يحتاج نحو عشر ساعات كاملة لكي يتمكن من الوصول إلى المحطة التي كنا فيها...

هنا اشتغلت "الماكينة الألمانية" المشهورة بدقتها كأنها الساعة.. أبلغت أجهزة الأمن الألمانية كافة القطارات المتجهة إلى براغ والمحطات التي تقف فيها البحث عن شخص اسمه "ماهر حداد" من بين ركابها... فيما طلب منه أبو جعفر أن يذهب إلى مسؤول الأمن في القطار ويعَّرف عن نفسه.. في لحظة ما عثر أحد رجال الأمن الذين تلقوا الإشارة على ماهر حداد في عربة القطار الذي كان يستقله.

طلب منه النزول في المحطة، وكانت تلك هي المحطة التي عليه أن يستبدل فيها القطار بآخر متجه إلى براغ... وفي المحطة كان رجال الأمن الذين تواصلت معه مراقبة خط القطار بعد حديثها مع أبو جعفر... وهناك في المحطة طلب رجال الأمن منه أن يعطيهم جواز سفري، فقاموا بتصويره وتصوير تأشيرة الدخول (الفيزا) وأعادوه إليه وطلبوا منه مواصلة رحلته..

عندها تم ارسال صورة جواز سفري وصورة الفيزا عبر البريد الالكتروني الى المخفر الحدودي الذي كنا ننتظر فيه بعد زمن من الانتظار وكأنه الدهر كله... وفي انتظار وثائق السفر طلبنا من الشرطيين الدخول على الانترنت، فتح موقع (جوجل) الذي وجدوا فيه مئات الصور والمعلومات عني، بما فيها زيارتي الأخيرة إلى لندن ومن خلالها عرفوا شخصيتي ومن أكون.. هنا تغيرت معاملتهم لي 360 درجة.. احضروا كرسياً متحركا، لم يكن سوى الكرسي الخاص بمدير مركز شرطة (فورت ام قاله).. وقدموه لي فجلست عليه.

وكان ماهر حداد قد استقل القطار الجديد، ولكنه لشدة ارتباكه وضيق الوقت في فترة استبدال الخط استقل عربة غير المخصصة له، ولم ينتبه إلى خطئه إلا بعد أن نبهه مفتش القطار إلى ذلك... ولكن المشكلة لم تكن هنا فقط... بل فيما سيأتي لاحقاً... مقطورته ستنفصل في إحدى المحطات ويقطرها قطار آخر إلى جهة أخرى غير التي يقصدها... أخذ حقائبه وحقائبنا.. وأخذ يركض بها وهو يتعثر بها... لينقلها إلى المقطورة المخصصة في العربة التي ستتجه إلى براغ واخذ يصطدم بالركاب النائمين ويترنح يميناً وشمالاً فقد كانت الساعة الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل... وسمع صوت أحد الركاب يطلق شتيمة بالعربية في جوف الظلام (هاد.. ما رح يتركنا ننام).

وأثناء نقله لآخر حقيبة ووضعها في العربة المخصصة له طلبت منه موظفة المحطة أن يدفع عن كل حقيبة خمسين يورو….

من أين يأتي بهذا المال؟

كل مافي جيبه 38 يورو فقط

أصبح موقفه حرجاً، وقد علت الضحكات من المسؤولين عن الشحن وكأن أصابتهم الدهشة من هذا الراكب الذي يحمل كل هذه الحقائب ولا يملك المال الكافي لدفع أجرة الشحن؟

لكن النهاية لم تكن سيئة...

أدركوا أنه غريب من عدم إجادته للغة الألمانية وانه في ورطة.

عطفوا عليه.. واعفوه من دفع أجرة الشحن واكتفوا بالضحك والابتسامات والتعجب.

توجه الى مكانه وجلس بقرب حقائبه الستة... واكمل طريقه إلى براغ التي سيصلها في الحادية عشر صباحاً...

وصول الأوراق الثبوتية

ويتابع ومردفا :" بعد أن وصلت أوراقي الثبوتية إلى المخفر... سألوني إن كنت قد زرت لندن بتاريخ 25/8/2010م.

أجبتهم: نعم... لكن لماذا هذا السؤال!!

أجابني الضابط "سيباستيان" الذي يتحدث الفرنسية انهم دخلوا إلى الإنترنت وعرفوا معلومات كثيرة عني... ومن أكون.. واعتذر بلطف وتهذيب على عكس ذلك النقيب الذي تصرف معنا بعنجهية.. وقد شاهدته وهو يغادر مكسور الخاطر لأنه اعتقد بأنه حقق نصراً أمنياً يستحق الترقية عليه..

شكرت الضابط "سيباستيان" على لطفه.. وأكثر منه شكرت في نفسي ثورة وتقنية الاتصالات الحديثة التي جعلت العالم في متناول اليد... وإلا مالذي كان سيحل بنا في ذلك المخفر الحدودي؟!

قالوا لي إن صورة الجواز والفيزا قد لا تؤهلانك لاجتياز بقية الحدود... نحن نخشى أن تتعرض لموقف مماثل كالذي حدث لك هنا خاصة في الحدود التشيكية..

-والحل؟!

-سنعطيك وثيقة سفر لتجنبك موقفاً كهذا...

اعطوني الوثيقة ولكني لم استخدمها حتى وصولنا الى براغ بدون مشاكل..

عودة الى براغ بعد 27 عاما

ويردف سيادة الرئيس  ناصر حينما انتهت الأجهزة  الأمنية الألمانية إجراءاتها فيقول :"  بعد انتهاء هذه الاجراءات انتقلت مع ضابط الشرطة الى فندق صغير تديره أسرة وكان المطبخ قد اغلق ابوابه، لكنهم طلبوا ان يفتح المطعم حيث اقام حفل عشاء على شرفي وبتنا ليلتنا في نفس الفندق (هوهنبوكن)... وفي الصباح جاءوا لوداعنا وفي الساعة الحادية عشرة وخمسين دقيقة، استقلينا القطار المتجه الى براغ التي وصلنا اليها عند الساعة الخامسة من مساء الثاني والعشرين من سبتمبر اخترنا فندق (اوبراغا) لاقامتنا... مبنى قديم بدون مصاعد يعود بناؤه الى نحو أكثر من 200 عاماً... ويقع في قلب مدينة براغ... زرت مدينة براغ ثلاث مرات، كانت الأولى عام 1973م والثانية عام 1982م وهذه زيارتي الثالثة لها والتي بدأت للتو... خلال الزيارتين السابقتين تعرفت الى بعض قادة تشيكوسلوفاكيا السابقة قبل انهيار النظام الاشتراكي وانقسام البلد الى دولتين... جمهورية التشيك وجمهورية سلوفاكيا. منهم الجنرال سوفوبودا رئيس الدولة والرئيس جوستانف هوساك الذي زار عدن عام 1982م عندما كنت رئيساً لجمهورية اليمن الديمقراطية وقد قدمت لنا تشيكوسلوفاكيا مساعدات اقتصادية وعسكرية وفنية وعلمية... كما قدمت السلاح لمصر عام 1955م أو ما سمي حينها (بصفقة السلاح التشيكي) والتي أَثارت غضب اميركا والغرب بأسره كما قدمت لمصر الجسور المتحركة التي عبرت عليها الدبابات والجنود المصريون في حرب اكتوبر 1973م إلى الضفة الشرقية لقناة السويس التي كان يحتلها الاسرائيليون منذ عام 1967م... من صفقة السلاح التشيكي التي كسر فيها جمال عبد الناصر احتكار السلاح بدأ عهد العلاقات المصرية السوفيتية... كانت موسكو وراء الصفقة التشيكية العسكرية التي غيرت موازين القوى وطبيعة العلاقات في المنطقة... وكان ذلك اثناء سنوات الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والامبريالي الغربي.. ولكن...

معالم مدينة براغ

ويستدرك في الحديث :"  كل شيء تغير في المدينة التي سبق أن زرتها... ها أنذا هنا مرة أُخرى... لقد اصطخبت، وتغيرت الأمكنة والأمزجة، المحلات التجارية، الأسواق، المطاعم، السياحة، الناس... اختفت المعالم الجميلة التي التصقت بذاكرتي.

أحزنني ما آلت إليه المدينة المعروفة بفنها المعماري الفريد... سكانها الهادئون بطبعهم تحولوا مع التحول الذي شهدته من الاشتراكية الى الرأسمالية، والمدينة الهادئة تحولت الى مدينة صاخبة... لكن بعض أحيائها التاريخية القديمة لاتزال تحتفظ بمعالمها، خاصة ساعة أورلوي  المشهورة والتي صممت وعلقت على جدار منذ عام 1410م.. ولا تزال تعمل بنفس الدقة الى يومنا هذا ويقال انها لا تتوقف أبداً..

كان السواح والمارة يلتفون حولها كالعادة بعد أن تحولت مع الوقت الى أَثر يحرص الزائر الى براغ على رؤيتها... كما إن أهل المدينة يصطحبون زوارهم إليها... خلال كل ساعة زمنية تُفتح في الأعلى نافذتان، ثم تظهر تماثيل لأثني عشر راهباً ، وتمثال آخر يلوح بجرس.. وديك يصيح؟!

وعندما يرى الجمهور ذلك المشهد تغمره سعادة يعبر عنها بالتصفيق.

يقال أن المهندس يان هانوش الذي أعاد إصلاح  وترميم هذه الساعة العجيبة في القرن السادس عشرأمر الملك بعد مشاهدته لها بفقأ عيني المهندس حتى لا يصنع مثلها لأحد غيره..

بعد عدة سنوات عاد المهندس الأعمى وطلب مقابلة الملك الذي أمر بفقأ عينيه...

عندما قابله الملك قال للملك لقد صنعت ساعة أخرى رغم أنني أعمى وأقدمها هدية لك.

شعر الملك بالندم على ما فعله بمهندسه العبقري، وأمر وزيره بتكريمه وعلاجه على حساب الدولة تقديراً لاخلاصه للملك بعد أن فقد بصره ولم يفقد بصيرته، حيث لم يهرب ويصنع ساعة مماثلة لدولة أُخرى أو ملك آخر.

علمت إن الذي يقوم بصيانة الساعة الشهيرة، أسرة تشيكية توارثت هذه الصنعة أباً عن جد منذ تاريخ صناعة الساعة... وظلت تمارس هذه المهنة حتى في فترة النظام الاشتراكي في تشيكوسلوفاكيا وأنه سمح لها بالسفر الى الخارج لإحضار قطعة للساعة عندما تعرضت للعطل لبعض الوقت. في ظل النظام الاشتراكي كان يسمح للمواطن التشيكي بالسفر الى الخارج مرة كل سنتين ولم يكن يخلو الامر من استجواب متكرر للبعض منهم خاصة الذين كانوا يسافرون الى اميركا.

بنى ذلك الملك نفسه نحو مائة برج وتمثال في براغ لاتزال صامدة حتى اليوم... أي منذ بنائها في القرن السادس عشر الميلادي...

بعض تلك التماثيل توجد على جسر (شارل العاشر) ذهبنا لزيارتها .. ورأيت البعض يلامسون اجزاء من تلك التماثيل خاصة كلب في لوحة بديعة يودون منحه بعضاً من حنانهم.  

تماثيل تتحول إلى جذب سياحي

ويتابع فيقول :" هذه التماثيل تحولت الى مركز جذب سياحي ومصدر دخل مهم للحكومة وللشعب بعد الانفتاح الذي حصل بعد انهيار المعسكر الاشتراكي.. هذا الانفتاح غير الكثير من معالم المدينة وطبيعة شعبها ولكنني لا أستطيع أن أنكر أن له آثاره الايجابية أيضا..  بقيت هذه التماثيل شاهدة على التغيير الدراماتيكي الذي حل بالمدينة وأهلها.. من هذه المدينة أنطلقت الأصوات المطالبة بإصلاح النظام الاشتراكي أو ما سمي حينها بربيع براغ اغسطس 1968م والذي قاده ألكسندر دوبتشيك زعيم الحزب الشيوعي أنذاك والذي أتهم بالانحراف وبتغيير النهج السياسي للبلاد.. استمر هذا الربيع لشهور سبعة وبعد ذلك دحرته دبابات الاتحاد السوفيتي وبلدان حلف وارسو الموالية له في ساعتين كما حدثني بذلك وزير الدفاع الروسي المارشال جريشكو في احد لقاءاتي معه في سبعينيات القرن الماضي .. وعادت تشيكوسلوفاكيا كما كانت.. ولكن رياح هذا الربيع العاصفة عصفت في نهاية الأمر بالجميع ووصلت حتى موسكو واسقطت المنظومة الاشتراكية كلها.. نفس هذا المصير لقيته الاصلاحات السياسية والاقتصادية التي حاولت القيام بها في اليمن الديمقراطية عندما أصبحت رئيساً لها بين عامي 1980 – 1986 حينها أيضا اتهمت بالخروج من الدائرة الحمراء إلى الدائرة العربية.

ربما إن تردد الناس على تلك التماثيل هي نوع من الحنين الى ما يتجاوزها.. الى ماض عريق، وحاضر مكتض، ومستقبل لا أحد يعرف إلى أين يؤدي... وفي عدن بعد الاستقلال نقل تمثال الملكة فكتوريا من حديقة الملكة بالتواهي الى مبنى السفارة البريطانية بعدن لانه كان رمزاً لعهد الاحتلال والاستعمار وقد قال لي المؤرخ سلطان ناجي مؤلف "التاريخ العسكري لليمن" أنه كان مصنوعا من الحديد المصهور من اسلحة المقاومة ضد الكابتن هنس عام 1839م. وجود التمثال يتعارض مع الثقافات السياسية المعادية للاستعمار وحل محله النصب التذكاري لشهداء ثورة 14 اكتوبر الذي كتب عليه "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا". وبعد الوحدة أعاد النظام التمثال مرة اخرى الى مكانه في حديقة الملكة بالتواهي بهدف كسب الدعم السياسي والاقتصادي من بريطانيا لحكام صنعاء ويبدو أن المواطنين لم يعترضوا على عودته لانهم كانوا يحنون الى عهود ما قبل الوحدة من اشتراكيين وسلاطين واستعمار بريطاني، وينطبق هذا الحنين مع المثل وبيت الشعر الذي يقول :

رُب يومٍ بَكيتُ منهُ فلما صِرتُ في غَيرهِ بَكيتُ عليه

 

( تابعونا للحديث بقية ) ..