آخر تحديث :السبت-11 مايو 2024-11:49م

أدب وثقافة


ديرتي (قصة قصيرة)

الأربعاء - 01 مايو 2019 - 06:30 م بتوقيت عدن

ديرتي (قصة قصيرة)

بقلم: عصام عبدالله مسعد مريسي

جمعت الأسرة أغراضها وحزمت حقائبها ، ومن خلف النافذة ظلت تنظر بعينيها المكسورتان لأخوتها وشباب الجيران وهم ينقلون الأمتعة ويضعونها في الشاحنة التي سوف تقل أمتعتهم وفي ذلك اليوم سماء جدة على غير عادتها خيم عليها الضباب والسحب السوداء التي حجبت بريق شمسها اللامعة وبدأت السحب تذرف رشفات من ماءها البارد الذي صحبته نسمات عليلة وتدفقت تيارات الهواء تداعب خصلات شعرها الأشقر وكأن السماء تعلن حزنها الدفين على رحيل الأسرة التي قضت كل حياتها في المدينة لا تعرف وطن غيره بل أن كل أبنائها قد سقطت هاماتهم على تربتها فأظلتهم سماؤها وأقلتهم تربتها وتنفسوا عبير هوائها وهي ما تزال غارقة في تقليب صفحات من ذاكرتها عندما كانت طفلة وهي تسرح وتمرح مع بنات الديرة وأصواتهن محفورة في مخيلتها:

تعالي وينك .. اللعب ما يكمل إلا معاك

واترابها يندفعن نحوها يجرنّ أذيال عباءتها حتى تشاركهن اللعب وهي تردد:

أنا جيت للعب .. حاضر أنا جيت

وضحكاتهن تملأ الأصداء وترج فضاء الحي وزخات من المطر تنزل عليهن تبلل عباءتهن وهن يرددن:

يا مطيره .. يا مطيره

تفيق من ذكرياتها على صوت والدها ينادي عليها :

السيارات جاهزة للرحيل  ..  هيا يا أبنتي

ما زالت أصوات بنات الديرة تملأ بصداها أركان المنزل الخالي من العفش وملامح وجوهن السمراء تنعكس على جدرانه وهي ترى نفسها في كل وجه من وجوه بنات الديرة ولا يفرقن عنها في شيء من ملامحها ، بصوت مترهل تجيب والدها:

حاضر يأبي .. سوف الحق بكم

تصعد الحافلة إلى جوار والدتها واخوتها , وتنطلق الحافلة وسيارة النقل التي تقل أغراضهم ، وعلى جانبي الطريق تلمح جانب من طفولتها وكلما ألقت ببصرها ارتسمت أمامها صورة بنات الديرة وهن يتجاذبن الحديث وترتفع ضحكاتهن حتى تملأ المكان بهجةً وحيوية ومن غير أن تدري تسقط دمعة حارة من عينيها توقظها من أحلام يقظتها ، تحدق النظر على جانبي الطريق فلم تعد ترى مناظر المدينة التي قضت ماضي عمرها فيها تشعر بالوحدة والغربة رغم أنها كانت تعلم أنها مغادرة إلى بلدها الأصلي ولكنه لا يربطه بشيء من ذكرياتها لم تعش فيه لن تراه قط سوى في رواية والديها عنه لكن جدة هي البلد التي تعرفه وناس جدة هم أهلها وعشيرتها وبنات ديرتها هن صديقاتها وهي اليوم تنفصل عنهم لا تدري ما السبب ولماذا ؟ وكلما توغلت الحافلة في الطريق واختفت معالم مدينتها زاد إحساسها بالغربة  والوحدة وبجانبها أمها تشعر بما تعاني فتجذبها نحو صدرها وتحتضنها وما تلبث أن تجهش بالبكاء وأمها تخفف عنها وهي تمرر أناملها على رأسها المثقل بالهموم والألم :

لا تحزني صغيرتي .. ستعتادين على الأمر وتصبح جدة ذكرى جميلة تراودك في أحلامك