آخر تحديث :الخميس-25 أبريل 2024-03:31ص

أخبار وتقارير


ضابط عسكري بارز يكشف فصولا هامة من الحرب على الجنوب

الخميس - 31 مايو 2018 - 12:01 ص بتوقيت عدن

ضابط عسكري بارز يكشف فصولا هامة من الحرب على الجنوب

عدن (عدن الغد) متابعات :

تقرير : عوض القيسي

روى القيادي في المقاومة الجنوبية القيد / جلال القاضي فصول هامة من الحرب التي شهدتها عدن في العام 2015.

وقال القاضي لصحيفة الوطن العدنية : عندما اندلعت الحرب كنت قد أنهيت للتو رسالتي للدكتوراه في العلوم العسكرية في كلية الحرب العليا التابعة للأكاديمية العسكرية العليا في صنعاء. وكنت أتأهب للتخرج. بلغنا أن وحدات القوات المسلحة واللجان الشعبية بدأت تتقهقر وتخلي مواقعها وبالذات في المناطق الجنوبية في عدن وأبين. أخذتني الغيرة على بلادي. فانتقلت في السابع والعشرين من مارس إلى قريتي (امسلامية) في المنطقة الوسطى في أبين. عند وصولي إلى لودر رأيت نقاط الحوثة في مداخل المدينة, وانتشار مقاتليهم في الجزء الجنوبي من المدينة. ثم رأيت لهم نقطة في مفرق امعين. حين رأيت أطفال الحوثي في النقاط ويدوسون على ارضي وتنهزم أمامهم اللجان الشعبية شعرت بضيق شديد وحزن. جلست مع رجال قريتي وعرضت عليهم أمر القيام بعمليات مقاومة للوجود الحوثي. فأجابوني بانعدام أي امكانيات لديهم للقيام بأعمال المقاومة. قالوا لي إن كان بإمكاني أن أوفر لهم الذخائر فسيقومون بالعمليات. ونصحوني بالذهاب إلى اللجان الشعبية والتماس الذخائر من هم. لكنهم للأسف أخبروني بعدم توفرها لديهم. سألت أحد قيادات اللجان في نقطة عكد عن الوضع فأجابني بأنهم تائهون. لم أَكَلّ من عدم الاستجابة, وأردت أن أقوم بأي عمل قتالي فاتصلت بصالح العبيدي, وأبلغني أن رجلا يدعى الشيخ عبدالله بلعيد من قبائل آل هلال سيساعدك فيما تريد, لكنه يريدك أن تساعده على الرماية بعربة (ب م 21) واستخراج إحداثيات بعض أهداف الحوافش لإرسالها لطيران التحالف.

 

التقيت بالشيخ عبدالله بلعيد في مودية, وقلت له إنني مرسل من الأخ صالح العبيدي, فرحب بي بحرارة وقال : كنت في انتظارك. عرضت عليه موضوع الهجوم على نقطة الحوثيين في امعين, فأخبرني بأن لديه مهمة محددة في منطقة "لاريب". فسألته أن يزودنا بذخائر للبنادق وقذائف للآر بي جي, فسألني إن كان أصحابي سينفذون المهمة بالذخائر التي ستعطى لي فأكدت له ذلك, فقال سنتفق في مفرق الخبر.

 

أمسيت تلك الليلة في القرية وفي الصباح 29/3/2015 توجهت الى الخبر برفقة خمسة من أهل قريتي بأسلحتهم الشخصية, أما أنا حينها فلم يكن لدي سلاح. لقيت الشيخ عبدالله بلعيد وكان منشغلا بتوزيع الذخائر وأيضا بمبالغ مالية لقادة المجاميع لصرفها في توفير الغذاء. تغدينا معا ثم قمنا بعد الغداء بالعمل. أراني الأهداف التي ينبغي ضربها, فقمت بتحديد إحداثياتها من على خارطة عسكرية طبوغرافية للمنطقة كانت بحوزتي. أرسل الإحداثيات للتحالف بواسطة هاتف ثريا, فردوا عليه بأن الضربة ستكون في السابعة مساء.

 

أعطاني الذخيرة التي طلبتها منه, وحملتها على سيارتي وأرسلتها برفقة أربعة من قريتي وقلت لهم سلموها للذين سيقومون بالهجوم على نقطة امعين, وشفعتها باتصال لقائد العملية, وأبلغته بأن الذخيرة ستصله, وعليهم أن ينفذوا العملية الليلة. ثم ذهبت بصحبة الشيخ عبدالله والصديق الأزرق إلى نقطة مراقبة تم تحديدها مسبقا.

 

هناك حددنا إحداثيات الهدف للرمي بالعربة الصاروخية على كتيبة "لاريب" التابعة للواء الـ 15 مشاة التابعة للإنقلابيين, ثم عدنا إلى موقع العربة في مفرق الخبر, ونقلنها إلى مربض للنيران على بعد 10 كم من الهدف في مكان كان يحقق الإخفاء عن أنظار العدو.

 

وكنت الوحيد المتخصص في العربة الصاروخية, لذلك كنت قائد الطقم والمسدد والاستطلاع, أما البقية فساعدوني في تحميل الصواريخ للعربة. قمت بتحميل المعلومات على طبلة المسافات في العربة الصاروخية, وبقي الصديق فوق العربة للرمي.

 

واتجهت في المغرب برفقة الشيخ عبدالله إلى نقطة المراقبة التي كانت تبعد 3.5 كم عن الهدف, وانتظرنا حتى رمى الطيران, وبعد ربع ساعة ابتدأنا الرمي بالعربة الصاروخية, وبعد انتهاء العربة من رمايتها بدأ المقاتلون القبليون بالتقدم إلى المعسكر لاقتحامه, وتمكن المقاتلون من اقتحام المعسكر والسيطرة على موقعه وأخذ كثير من الأسرى, ولم يكلفنا ذلك غير اثنين من الشهداء وسبعة من الجرحى.

 

عدنا إلى مفرق الخبر في حدود الثانية عشرة, وكان الناس في فرح وابتهاج, وبقينا في الموقع, وكان الشيخ عبدالله يوزع المهام على قادة المجموعات. في الساعة الواحدة والنصف تقريبا وصلنا البلاغ بأن المجموعة المهاجمة لنقطة امعين نفذت مهمتها وكل شيء على ما يرام.

 

نمت تلك الليلة في مفرق الخبر, وفي الصباح قلت للشيخ عبدالله بأنني أنوي الذهاب إلى عدن, فرتب لي سيارة تنقلني إلى امخديرة, وأعطاني ثلاثين ألفا مصاريف الطريق.

 

عدت إلى امسلامية, ولقيت المقدم حسن القاضي من أقاربي, وكان مثلي ضابط مدفعية في الحرس الجمهوري, وخزنا معا, ودار نقاش بيننا عن الذهاب إلى عدن. أخبرته بأنه جاءني اتصال من هناك, وقالوا لي إنهم بحاجة إلى مدفعيين, ولديهم عربات وقطع مدفعية كثيرة, واقتنع بالذهاب معي.

 

في اليوم الثاني 31/3/2015 اتجهنا في الصباح إلى عدن بعد الترتيب مع ذوي الشأن, ورأينا العديد من النقاط للحوافش على طول الطريق, فكانت هناك نقطتان في مدخل امعين ومخرجها, وأخرى في امفيض, وواحدة في مفرق المحاثيث, وفي مفرق امحميشة, وكانت لهم نقطة وتجمع في معسكر الصومال في جحين, ونقطة في امرُكبة, ونقطة وتجمع في شقرة, ونقطة في الشيخ سالم ونقطة في مفرق ملعب خليجي 20.

 

أما الطريق من مدخل زنجبار إلى مخرج الكود فلم يدخلها الحوافش. وبعد مخرج السجن عند مفرق الطريق الدائري المؤدي إلى الملعب كانت هناك نقطة, وكانت هناك نقطة في محطة بحر العرب, وشاهدنا تجمعات لحوالي أربعة أطقم وعربة (بي تي آر 60). كنت أمشي وأنا أحاول أن أسجل تفاصيل هذه المشاهد في ذاكرتي.

 

وصلنا إلى امعَلَم, وكان هناك تجمع بسيط للجنود, وقد لحظتهم يعيشون حياة عادية غير آبهة بالحرب وكأنهم يعيشون في أمان وطمأنينة. عندما وصلت إلى جولة المجاري أخذت أشحذ انتباهي أكثر لعلمي أن المدفعية سيصل مداها من أي مكان في عدن إلى هذه المنطقة. وجدنا نقطة اختلط فيها العساكر بالمليشيات, ولاحظت وجود دبابة بجانب أحواض معالجة مياه الصرف الصحي متجه مدفعها إلى طريق الممدارة, ولاحظت في بوابة شركة كنيديان نيكسن ثلاث شاحنات نقل مدنية من نوع جامبو تحوي مواداً غذائية, وصهريج وقود مرسيدس, ومجموعة من الأطقم والعربات المدرعة. تيقنت أن هذا مركز إمداد وتموين لهم. وكان هذا من أول الأهداف التي وضعتها في اعتباري. لحسن حظنا لم يُسائلونا في النقطة بل تركونا نمر. في منطقة غازي علوان رأيت تجمعات لدبابات وعربات مدرعة منتشرة بين الفلل في حدود الكتيبة, ثم سرنا باتجاه خورمكسر, وعند وصولنا إلى العريش وجدنا الكثير من العساكر حول جولة الرحاب المواجهة لمطار عدن وفي الكورنيش.

 

استوقفتنا النقطة, وسألني أحد العسكر :

-     أين رايحين ؟

-     خورمكسر.

-     أيش معاكم ؟

-     ساكنين هنا.

-     معكم سلاح ؟

-     لا.

ففتش السيارة والصندوق الخلفي لها. ولما تأكد من خلوها قال لنا :

-     انتبهوا يمكن تلاقوا أمامكم دواعش.

 

منذ وصولنا إلى النقطة حتى تحركنا منها لفت انتباهي ثغرة في سور المطار أحدثها الحوافش. رأيت الطائرة الرئاسية وتحتها طقمين وهوائيات اتصال في جسم الطائرة فأدركت أنه مركز قيادة وسيطرة فوضعته في الحسبان !

 

تحركنا باتجاه حي السعادة وعند وصولنا إلى فتحة طريق السعادة في مساكن الأحمدي أطلق بعض المقاومين نيرانا تحذيرية, فتوقفتُ فخرج علينا أحد المقاومين من مدرعة مدمرة كان يحتمي فيها, وطلب مني أن أنعطف باتجاه حي السعادة. انعطفت باتجاه حي السعادة ووجدنا الشهيد محمد امزربة (الذي اشتهر بقناص خورمكسر) فسلمناعليه, و قلت له :

-     أين مركز القيادة ؟

-     في منزل البيض.

-     هل لديكم مسؤول أو من يدير أعمالكم القتالية ؟

-     لا, نحن شباب نقاتل لأنفسنا, بعض الأحيان يأتي بعض الضباط وأحيانا لا يأتون. ما رأيكم لو بقيتم معنا؟

-     بقاؤنا معكم لن يكون مجدياً. نحن متخصصون في المدفعية وسيكون عملنا في البريقا وهو الأفضل لنا ولكم. لأننا سنسندكم بالنيران في أي وقت تريدون.

نصحناهم بأن يعتلوا العمائر ويتمترسوا خلفها وأن لا يتقدموا؛ لأن القوة أمامهم كبيرة.

 

ذهبنا إلى بيت البيض فلم نجد أحداً, ثم انتقلنا إلى بيت حسن القاضي, فوضعت سيارتي؛ لأن لوحتها تحمل الرقم 2 وقد تجلب الشبهة لنا عند رجال المقاومة الذين لا يعرفوننا, وأخذت سيارة أخي حسن, وتحركنا بها إلى المنصورة عن طريق الجسر. وجدنا نقطة للأمن المركزي على لسان المطار. فتشونا ثم تركونا نذهب, ووصلنا إلى جولة كالتكس وكانت هناك نقطة للمقاومة بجانب مستشفى البريهي مررنا بها, ثم اتجهنا إلى المجلس المحلي؛ لنلتقي بأحمد الخضر الذي اتصل بنا يطلبنا للعمل على المدفعية. في ذلك اليوم أخذنا إلى معسكر بير أحمد حيث كانت هناك كثير من الدبابات. التقينا هناك ببجاش الأغبري, وأحمد الإدريسي, وجلسنا معهم. عرفت بنفسي للأخ بجاش, فطلب مني أن أنظم دفاعا ذاتيا للمعسكر, وأن أبقى معه. شرحت له أن تخصصي مدفعي. وقلت له إنّي سأُنَظم لهم الدفاعات بحكم خبرتي. انتقلنا نحن وبجاش, وبدأنا بتوزيع الدبابات على دفاع المعسكر, وأحضرنا جرافة لتصنع دفاعات حول المعسكر, ثم انتقلنا مع وضاح الحريبي في المغرب, ومعه العقيد سالم عبدربه خميس ومحمد مثنى عبدربه إلى البريقا, ووصلنا إلى نقطة البريقا, ووجدنا مدفعية ذاتية الحركة.

 

كان وضاح الحريبي وأحمد الخضر قد نسقوا لنا لقاءً مع الشيخ راوي - رحمه الله - وطارق النجدي, فجلسنا معهم, وشرحنا لهم تخصصنا ورغبتنا في المساعدة, فأبدوا استعدادهم, وقالوا لنا إننا نعتبر إخوة, وجهادنا في سبيل الله, وهدفنا القضاء على هذه الشرذمة. كان الوقت متأخرا, فقال لنا الشيخ راوي : تعالوا في الصباح, وسنقدم لكم العون والمساعدة.

 

وهنا علي أن أقول إنه كان للسلفين دور كبير في إنجاح عملي وتذليل كافة الصعاب. فهم وفروا لي العربات الصاروخية وأجهزة التسديد, وكانوا ينقلون بسيارتهم الذخيرة والمؤن, ووفروا لنا المياه والغذاء والمحروقات, ووفروا لنا بعض الملابس الجديدة بعد أن بليت ملابسنا, وكانوا يقدمون لنا مصروفا يوميا ساعدنا في قضاء حاجاتنا اليومية.

 

رجعنا صباح يوم 2/4/2015م وبصحبتنا الصدّيق الأزرق والعقيد سالم خميس وابن أخيه الشهيد المساعد محمد مثنى عبدربه. وذهبنا إلى مركز التجمع لمقاومة البريقا في إحدى المدارس, وكان بانتظارنا عارف عبيد الجعري والشيخ راوي والعقيد الركن أحمد الوادي والعقيد خالد المجعلي والملازم أول رشاد البطاني. سألونا عن قدراتنا, فأجبناهم أننا نستطيع الرمي على جميع أنواع المدفعية والمدفعية الصاروخية, وسألونا عن أفضل نوع, فأخبرناهم أن العربات الصاروخية تأثيرها أكبر على التجمعات المعادية, فقالوا لدينا عربات, فسألناهم عن أجهزة التسديد وأجهزة الاستطلاع المدفعي, فأخبرونا بأنهم يفتقرون لها, فطلبنا من عارف الجعري أن يسعى في الحصول عليها, ولم يأت مغرب ذلك اليوم - ولله الحمد - إلا وقد حصل عليها من معسكر سبأ, وطلبنا من رشاد البطاني أن يحضر لنا الصواريخ (ب م 21), فأحضرها لنا من خزائن رأس عباس. وأبلغونا بوجود عربة أخرى معبأة وجاهزة مع الشيخ علي عزب في الخيسة, ولم يكن هناك من هو متدرب عليها. اتصلوا به فاحضرها إلى مقر المقاومة في إحدى المدارس. وكان عليها اثنان من إخوته : وهاج ومؤاب.

 

في تعاملنا مع المقاومة حاولنا نحن العسكريين أن نحثهم على أن ينظموا أنفسهم بشكل عسكري وتسلسل قيادي, ودعمناهم بتدريب بعض الأفراد, وأعطيناهم توجيهات أين يتحصنون و المهام المسندة اليهم, وكيف يتم الهجوم, وكيف تكون الإغارة, وكيف توضع الكمائن. أعطيناهم بعض التوجيهات بضرورة التزامهم لرؤسائهم, حول تنسيق الأعمال القتالية عند الهجوم وعند الدفاع, والتمترس في مواقع دفاعية حصينة, وتنظيم الأعمال القتالية, وتنظيم التعاون ما بين الوحدات, وتنظيم التعاون ما بين الوحدات أي بين الجبهات, وكيف يتم تنفيذ التعاون, وكيف يتم تنفيذ الغارات النارية وتنفيذ التمهيد الناري والدعم الناري والمرافقة النارية أثناء تقدم المقاتلين من المقاومة. وجدنا استجابة كبيرة من المقاومة, ووجدنا روحا معنوية مرتفعة كان لها دور في التغطية على جوانب القصور لدى المقاومة في التدريب. وكانت هذه نقطة إيجابية لصالح المقاومة. وكان لدينا بعض الصعوبات, منها : الافتقار للدعم والذخائر والتنسيق مع وحدات المقاومة خارج عدن في لحج وأبين.

 

بدء عملنا في مدفعية المقاومة

 

كنت ضابط مدفعية متمرس, لذلك رحت أبحث عن نقطة مراقبة ملائمة لنجري منها استطلاعنا للمناطق التي يسيطر عليها العدو؛ لنتمكن من رصد أهداف العدو وضربها بالمدفعية, فوجدت أن أنسب موقع ليكون نقطة مراقبة على الحوثة في خورمكسر هو ميناء الحاويات في مرفأ كالتكس.

 

كان أحمد الخضر القاضي - وهو قريب لي- يعمل في جبهة كالتكس, فطلبت منه أن ينسق لنا لعمل نقطة مراقبة من داخل رصيف الحاويات مع إدارة الرصيف, وقد تواصل مع أحد أفراد المقاومة - اسمه حمادة - كان على معرفة بالإدارة. ونجحت مساعينا.

 

لقد كان موقع المراقبة في رصيف الحاويات ممتازاً لإنشاء نقطة مراقبة؛ لأنه في موقع متوسط, ويحقق عنصري الإخفاء والتمويه من المظهر البريء للرافعات التي لم تكن تثير الشبهات لدى الحوافش.

 

لقد استمر عمال المرفأ في عملهم اليومي كالمعتاد, ولم تتعرض لهم قوات الغزو مع أنهم لم يكونوا تحت سيطرتها, وكانوا لا يبعدون عنها إلا في حدود الـ 500 متر بعد أن احتلوا دكة المعلا, وكان العمال يناوبون نوبات ليلية ونهارية, فكانت النوبة الليلية تأتي مع الساعة السادسة مساء, وكنا ننسل معهم في سيارة نقل العمال, هم يتجهون إلى أعمالهم بينما نحن نتجه إلى قمرة قيادة الرافعة الضخمة البالغة الارتفاع, وكانت مكانا ملائما لكشف الأهداف المختفية خلف السواتر في جبهة المطار. كان هذا في الأسبوع الأول للحرب.

 

بعد وصول العربة والصواريخ إلى مقر المقاومة, أرسلنا المقدم حسن القاضي وعارف عبيد والعقيد سالم خميس لمسح المنطقة الممتدة ما بين البريقا ومدينة إنماء. وبعد عودتهم أخبروني بأن هناك ثلاثة مواضع تصلح لتكون مرابض نارية هي : معسكر مَطْرَة, ومعسكر الدفاع الجوي الواقع أمام محطة طيبة, والكسارة الواقعة على مفرق مصنع الحديد.

انتقلت والشيخ راوي بسيارته للتأكد من أنسب هذه المرابض حتى ننفذ منه رمايتنا لتلك الليلة, فوجدنا معسكر الدفاع الجوي أمام محطة طيبة أنسب موضع ليكون مربضا للعربات الصاروخية لتنفيذ الرماية, فوضعنا حراسة لتأمينه, ثم نشرنا عدداً من أفراد المقاومة على الطريق من نقطة الفارسي حتى المربض الناري أمام طيبة؛ لتأمين العربات في أثناء نقلها وتنفيذها لمهمتها من أي تسلل لقوة معادية, ثم نقلنا العربات إلى المربض الناري, وبدأنا بالإعداد لرمي الهدف الأول, وكان طائرة الرئاسة الرابضة على مدرج مطار عدن. قام العقيد أحمد فاضل بتحديد اتجاه ومسافة الهدف من حاسوبه الشخصي بواسطة برنامج جوجل ارث. فحمّلنا المعلومات على طبلة المسافات في العربة وبقينا في حالة استعداد للرمي. وكان اثنان من أقاربي - خالد أحمد باحزيم وأخوه محمد أحمد باحزيم - عائدان إلى خورمكسر في سيارة إسعاف تتبع الهلال الأحمر يعملان عليها, فطلبت منهما أن يتأكدا من نتيجة الرماية إن كانت حققت إصابة مؤكدة عند مرورهما بجانب المطار.

 

تحركا وأعقبتهم بالذهاب على سيارة المساعد عارف عبيد الجعري بصحبته وبصحبة الصدِّيق لزرق, وذهبنا إلى ميناء الحاويات لنتأكد أيضا, ولنصحح الرماية إن تطلب ذلك. وصلنا إلى ميناء الحاويات, فأصدرت أمري عبر الهاتف الجوال إلى المربض الناري بأن يرموا صاروخا واحدا, فنفذوا الأمر. بعد سقوط الصاروخ بالقرب من الهدف عرفت أن الرماية ستكون في مجال الرمي المؤثر, فأمرتهم بإطلاق رشقة بـ 39 صاروخا, وكنت أراقب الهدف بالمنظار, فسقطت الصواريخ متوالية على الهدف وفي محيطه, ورأيت نشوب النيران في الطائرة الرئاسية وطائرة السعيدة. اتصلت بمن أرسلتهم وأكدوا لي رؤيتهم لاحتراق الطائرة.

 

بعد تدمير الطائرة الرئاسية, أعطيت أوامري بنقل النيران إلى جولة الرحاب والفندق المجاور لها, وتأكدت من إصابة الأهداف من موقعي, وكذلك من الشهيد محمد امزربة (قناص خورمكسر) الذي كان مع المجاميع المقاومة في عمائر الأحمدي.

بعد إنهائي لتلك المهام بقيت متحفز التفكير في تدمير معسكر كنيديان نيكسن أمام تقاطع المجاري. كنت أريد من يقوم لي بالاستطلاع وتصحيح الرماية من المتواجدين في جبهة الممدارة, ولم أكن أعلم بوجود شخص ملائم ليقوم بهذه المهمة, فتحدثت مع نائبي في الموقع العقيد سالم خميس:

-     نحن بحاجة إلى تدمير معسكر كنيديان نيكسن, لكن لا يوجد من نركن عليه ليقوم بالاستطلاع في تلك المنطقة.

-     عندي من يقوم بهذا العمل.

-     من هو ؟

-     العقيد الركن أحمد علي الكليش, تعرفه؟

-     نعم أعرفه جيدا وأعرف مستواه, إنه قائد عسكري محنك ومدفعي ممتاز.

 

أعطاني سالم خميس رقم هاتف "الكليش", واتصلت به, وعرفته بنفسي وطرحت عليه المهمة التي نزمع تنفيذها فرحب مليا. وطلبت منه المجيء إلى مقر المقاومة في البريقا, وفي اليوم الثاني جاءنا العقيد أحمد علي الكليش ومعه ضابط أخر اسمه أحمد محمد أبو راحلة, وطرحت عليه الموضوع :

-     نريد تدمير معسكر كنيديان نيكسن لأنه هدف رئيسي لنا.

-     أنا معك لكن لدينا أهداف أخرى ؟

-     ماهي هذه الأهداف ؟

-     المدينة الخضراء ومدينة الفيصل وبعض الأهداف في دار سعد؛ لأن فيها تجمعات للحوثة, وهي مراكز انطلاق لهم.

-     هل لديك أجهزة استطلاع مدفعي ؟

-     نعم لدي كل الأجهزة.

-     هل لديك نقطة مراقبة محددة يمكنك أن تستطلع منها ؟

-     لدينا عمارة في الممدارة مرتفعة نستطيع منها استطلاع جميع الأهداف المراد تدميرها.

-     هل يمكننا أن نعتمد عليك بأن تكون لنا استطلاع مدفعي في القطاع الممتد من كنيديان نيكسن حتى دار سعد ؟

-     نعم ! وأنا وما لدي من الأجهزة سأكون تحت خدمتكم في أي وقت. بيننا اتصال وعندما أكون جاهزا سأبلغكم.

في المغرب اتصل بي "الكليش" وأخبرني بجهوزيته. كنا قد جهزنا المربض الناري في معسكر مَطْرة. رمينا بأول صاروخ فأخبرني الكليش أنه حط بعيدا, وصحح لي المعلومات, فرمينا وحط الصاروخ الثاني في بوابة المعسكر, وصحح أخرى فحط الصاروخ الثالث في وسط المعسكر, فرمينا برشقة من عشرة صواريخ, والحقناها بمثلها, ثم نقلنا النيران إلى مدينة الفيصل, ورمينا تجمعات للحوثة في عدد من المساكن, وقرب الفجر نقلنا النيران إلى المدينة الخضراء مستهدفين منازل كان الانقلابيون يتخذونها مراكز للتجمع, وكانت حولها عربات كثيرة, وعدنا مع الفجر ونحن منهكي القوى ولكن بقلوب مرتاحة.

 

في ما تلاها من الأيام انتقلنا إلى أهداف أخرى, منها بيت علي محسن, وبعده نفذنا عدة غارات نارية على بعض المناطق بعد تمكن العدو من اجتياح خورمكسر وكريتر والمعلا والتوهي.

وكنا نغطي بنيران المدفعية الصاروخية ومدفعية الميدان قطاعات عدة هي : خورمكسر والعريش, وبعد أن تقدم الحوافش كنا نغطي المعلا والتواهي والفتح.

 

قمنا بتدمير بعض الأهداف الموجودة في معسكر بدر. من الأهداف التي رميناها في معسكر بدر كثير من المركبات والعربات المدرعة. وقد حددنا ثلاثة مدافع (د30 ) في معسكر بدر بقرب خزان المياه بوميضها, وكانت قد أزعجت المواطنين والمقاومة في المنصورة, فقمنا بالرمي عليها من المحمية بمدفع من نوعها بـ 15 قذيفة, فدُمرت تماما, ووجدنا حطامها بعد تحرير المطار. وفي جزيرة العمال رصدنا تجمعات للعدو في إحدى الفلل المقابلة لجهة المنصورة وقمنا بتدميرها.

 

صعوبات العمل

 

كنا نعمل على مدار الـ 24 ساعة, وتطلب هذا الأمر منا أن نقسم العمل بين أطقم مناوبة على فترتين : صباحية ومسائية. وتكللت هذه المهام بنتائج إيجابية, وكانت أكثر الأوقات حرجا هي الأيام الأولى, لكثرة الطلبات, فكانت تتراكم علينا طلبات الجبهات من عدة اتجاهات, فكان قائد جبهة خورمكسر يطلب منا دعماً نارياً, وكذلك قادة جبهات دارسعد وجبهة عمران وجبهة العريش وجبهة التواهي وجبهة الممدارة, كل أولئك كانوا يطلبون منا دعما ناريا, فوجدنا عبئا كبيرا لكثرة المهام المسندة علينا, فكنا نحاول أن نوازن ما بين تنفيذ الغارات النارية لكل الجبهات, ونأخذ وننتقي الأهداف المهمة والرئيسة التي ستضر بدفاعات المقاومة فكنا نعطيها أسبقية, فالجبهة التي يقع عليها ضغط كبير نحاول أن نعطيها أولوية في تنفيذ مهامنا النارية فبدأنا نقسم الجبهات إلى قطاعات نيران, فالجبهة التي يقع عليها ضغط من أي اتجاه نقوم بإسنادها الناري.

 

واجهتنا بعض الصعوبات مع الإخوة المقاتلين في المقاومة؛ لأنهم بطبعهم مدنيين, ولا يستطيعون تفهم الجوانب العسكرية. امتثال العنصر المقاوم لقيادته امتثال شخصي وليس عسكري, لأن العسكري له ضبط وربط وينفذ التعليمات بحذافيرها, عند الإيعاز بالتوقف يقف, وعند الأمر بالتقدم يتقدم. لكن عندما تكون معنا من المقاومة عناصر مدنية توجد عوائق أو عدم الفهم لمضمون الأمر العسكري, عندما تعطي الأمر بعدم التقدم تجد أنه يصعب أن يصل اليه, وتجد أنه يتقدم ؛ لذلك تقع ضحايا كثيرة بينهم. بعض الأماكن عند التقدم إليها نعطيهم أمراً بالتوقف حتى يتم تطهيرها من الألغام, فنجد أن بعض الإخوان في المقاومة يتقدمون طلبا للغنيمة, فيقع في حقل ألغام أو في منطقة قنص, وهذا أدى إلى خسائر بشرية في صفوف المقاومة لكن مع مرور الوقت بدأوا يتفهمون معنى الانضباط العسكري, لأن الانضباط هو العنصر الرئيس في حسم المعارك. أما عندما تكون الامور فالتة ولا يُلتزم بالأوامر هنا توجد الخسائر البشرية وتوجد الضحايا, لكن الحمد لله بدأت الأمور تتحسن تدريجيا, وأستطيع القول: خلال الأشهر القليلة من الحرب تعلمت المقاومة الشعبية الجنوبية وتعلم أبناؤها الكثير, وعرفوا معنى الالتزام ومعنى الانضباط, وأستطيع القول أن أبناءنا في المقاومة أصبحوا جنودا محترفين في القتال. هذه الصعوبات التي ذكرتها كانت سابقا, أما الآن فلا زلنا نعاني من صعوبات ونعاني من عدة أشياء من أهمها توفير الذخيرة والغذاء والوقود وبعض الأشياء التي ينبغي على قيادة المنطقة توفيرها قبل خوض أي عملية قتالية, وينبغي أن يقع هذا أساسا عند الإعداد والتنظيم للمعركة.

 

يجب الأخذ بهذه النقاط الرئيسة: الإعداد للأسلحة والمعدات, التأكد من الجاهزية القتالية والجاهزية الفنية, توفير الذخائر, هذه الأمور الرئيسة لتنظيم أعمال المعركة يجب أن تكون معدة مسبقا حسب القرار المتخذ من القائد لخوض العملية, لكن عندما تخوض عملية وأنت لم تُعدَّ لها فإنك ستصل إلى منتصف الطريق وستتوقف, وهنا سيصبح عليك عبئا كبيرا جدا, مثلما نواجه الآن في بعض الجبهات. نجد أن بعض قادة الجبهات ذهبوا إلى منتصف الطريق وتوقفوا؛ بسبب فقدانهم للذخائر ونقص في الوقود ونقص في الإمدادات. هذه الأمور نعاني منها بسبب عدم اتخاذ القرار السليم في الوقت المناسب والإعداد الكامل للجاهزية القتالية والفنية للأسلحة والمعدات والقوى البشرية.

 

واجهتنا صعوبات أخرى, أهمها عدم توفر سيارة للاستطلاع, فكنا نستأجر سيارة لنذهب بها للاستطلاع, أو يأتي أحد قادة الجبهات ممن يريدنا أن نقدم له الدعم الناري ويأخذ عناصر الاستطلاع معه ويتم الاستطلاع وتنفيذ المهام. وكنا نفتقر لأجهزة الاتصالات اللاسلكية, فكنا نستعمل أجهزة الهاتف السيار, وفي بعض الأوقات كانت تنقطع علينا التغطية فيصعب علينا الاتصال ما بين عناصر الاستطلاع وما بين المربض الناري. أما في الآونة الاخيرة بعد تطهير عدن كنا نفتقر لقاطرات للمدافع والذخير بدأت تنفد حتى أستطيع القول أنه لم يبق لدينا شيء من ذخيرة المدفعية (د30) , (130), (85) والهاون (160) وذخيرة العربات الصاروخية (ب م 21).

 

كانت من أصعب المهمات التي واجهتنا في جبهة المطار في نهاية الشهر الأول, وجود دبابتين في نهاية لسان المطار, واحدة كانت على الطريق الرئيس والثانية كانت في المنخفض الواقع تحت دكة الطريق الرئيس في موقع التقاء الطريق مع لسان المطار. كانت الدبابتان ترميان رميا فعالا على مجاميع المقاومة في جبهة كالتكس, وقد صعب على المقاومين أن يصطادوهما؛ لأن التي كانت على الطريق تختفي خلف ساتر ترابي والثانية ساعدها موقعها المنخفض في الاستتار والمنعة.

 

جاءني بعض المقاتلين من جبهة كالتكس, وهم محمد الحميس (قائد دبابة) وعلي باحزيم وجلال الطلّي, وطلبوا منا تدمير هاتين الدبابتين بنيران المدفعية الصاروخية. تلك الليلة كنت أعاني إرهاقا شديدا لكثرة الأعمال القتالية التي نفذناها؛ فلم أستطع تلبية طلبهم؛ فأجلت التنفيذ إلى الليلة الثانية. انتقلنا في الليلة الثانية مع السادسة والنصف مساء إلى خلف جسر المنصورة مشيا إلى أن وصلنا إلى المنعطف الذي يسبق السور الأول للمطار. هناك كان ساتر ترابي للمقاومة. من هناك حددنا إحداثيات الهدف, وتم تحضير المعلومات وإرسالها إلى المربض الناري. رموا بالصاروخ الأول, فانحرف بعيدا نحو جزيرة العمال, فصححت لهم المعلومات وأعادوا التدوين. يا لطيف ! وقع الصاروخ على مقربة منا, وكدنا نقتل أنفسنا برمينا. كان معنا مجموعة من شباب المقاومة الذين لم تكن لديهم خبرة سابقة في الحروب فوقع في أنفسهم الروع. وانبطحنا كلنا. كنت أنا أول المنبطحين لأني رأيت الصاروخ وهو آتٍ فادركت أنه سيتجه إلينا. بعد الانفجار قام رجل من متراس آخر بقربنا, وقد بدا شاربا, فأخذ يشتم عرضي ويصيح ويقول: هذي خيانة ! وكادت تقع بينه وبين بعض الشباب الملتزم معركة, لكننا حُلنا بينهم وبينه. قلت للشباب الذين حاولوا الاشتباك معه: لا عليكم هو سبني أنا ولم يسبكم أنتم, اتركوه فقد سامحته.

أعدت تصحيح المعلومات وإرسالها, فرموا بصاروخ ثالث, فوقع بالقرب من الدبابتين, فعلمت أننا دخلنا في مجال الرمي المؤثر. من خبرتي العسكرية أعرف أن الدبابة حين تتمركز تحوطها حماية من المشاة على الأجناب, وكنت أريد أن أستغل النيران في تدمير هذا كله, فأمرتهم بإطلاق ما يقارب الـ 17 صاروخا رشقة واحدة, فوقعت الصواريخ كلها متتابعة في حدود الدقيقة أو يزيد قليلا, ورأينا شظايا الدبابتين النارية تتصاعد في السماء, فهلل المقاومون وكبروا, وكان من بينهم ذلك الرجل الشارب الذي أخذ يقفز من الفرح وأخذ يكبر, ثم جاء إلي معتذرا عن شتيمته وقبل رأسي.

 

في هذه الأثناء تقدم قائد إحدى الدبابات, وهو محمد الحميس, على الطريق التي هي قيد الإنشاء حتى وصل إلى مقربة من لسان المطار. كان وحيدا في الدبابة, وعليه أن يقوم بدور الرامي والمذخر إلى جانب عمله سائقا. رمى بقذيفتين قاصدا بهما تدمير المدفع الآلي م ط (23مم) الرابض في جزيرة العمال, الذي طالما منع الحشود المتقدمة نحو المطار, وحصد عددا من المقاومين. ثم عدنا بعد تدمير الأهداف إلى المربض الناري.

 

استمرينا في تنفيذ الرمايات في التواهي وصوامع الغلال وقيادة المنطقة وجبل حديد ورأس مربط. هذه الأهداف كلها كانت مسجلة لدينا وتم التعامل معها عندما ظهر العدو فيها, وفي الممدارة ودار سعد والبساتين والتقنية وفي رأس عمران وفي بير أحمد, هذه الجبهات كلها أسندناها بنيران المدفعية الصاروخية ونيران مدفعية الميدان (د30) و(130مم) ونيران الهاون الثقيل (160 مم).

 

في إحدى الأيام من شهر إبريل, اتصل بي قائد المنطقة العسكرية الرابعة الشهيد علي ناصر هادي, وطلب مني توفير ذخيرة للدبابة اليتيمة (تي 55) التي كانوا يعتمدون عليها في صد هجمات الحوافش المتقدمين من جولة حجيف لاحتلال التواهي, وكانت تتمركز بجانب بوابة مؤسسة الأسماك. تكلمت مع المجلس العسكري في البريقا وقاموا مشكورين بتوفيرها, فنقلناها بقارب صيد وفره لنا الشيخ السلفي علي عزب - من أبناء الخيسة في البريقا- ونقلنا الذخيرة من مرسى الصيادين في "الضربة" بالبريقا مع العصر. كان معي في القارب وهاج عزب وسائق القارب وعارف عبيد الجعري والعقيد الركن خالد النسي. وصلنا بعد عشرين دقيقة إلى ساحل رامبو, وهو جزء من الساحل الذهبي. كان في الانتظار العقيد علي الكود قائد القاعدة الإدارية في المنطقة العسكرية الرابعة. حملنا الذخيرة على سيارة بيك آب وانطلقنا إلى موقع الدبابة, وأنزلنا الحمولة هناك, واتجهنا بسيارة ضد الرصاص كانت بحوزة العقيد علي الكود إلى العمارة المشرفة على جولة حجيف, وقد تعرضنا لرمي رصاص.

 

وجدت الشهيد علي ناصر هادي في العمارة, وكان بصحبته العميد الركن محمد مساعد مدير أمن محافظة عدن. رحب الشهيد علي ناصر بنا, وفرح بقدومنا, وشكرنا بحرارة. طلبنا منه أن يزودنا بصواعق صواريخ (ب م 21) إن كان لديه في مستودعات رأس مربط, فأمر علي الكود بأن يعطينا ما نطلب إن كانت موجودة.

 

في رأس مربط وجدنا بغيتنا, وأخذنا كل ما كان في المخزن من صواعق وكانت في حدود عشرين علبة تحوي كل واحدة عشرة. وأعطانا العقيد علي الكود كذلك صندوقي ذخيرة للبنادق الآلية. وفي طريق العودة أشرت على رفاقي بأن نتبرع بذخيرة الآلي لجبهة عكد التي كانت تفتقر للذخائر فوافقوا وكلفنا عارف عبد بإيصالها وقد فعل.

 

في معمعان الحرب

 

في أحد أيام شهر مايو, اتصل بي الشيخ راوي ليبلغني بوقوع هجوم للحوافش على المقاومة المتمركزة في مصنع الحديد في مفرق الوهط, وطلب مني تقديم الدعم الناري لصد تقدم العدو. جهزنا العربات, وانتقلنا إلى مربض ناري جديد يقع بجانب خزانات المياه في ضواحي مدينة البريقا. وأخرجنا مدفع (د30) واحتللنا المربض, وقام العقيد أحمد فاضل كعادته باستخراج إحداثيات الرمي على الموقع من خلال برنامج جوجل ارث. وصل في عقبنا الشيخ راوي, وأخبرنا بأن الحوثة قد تقدموا إلى مصنع الحديد, وبأن لديهم عديد وعتاد كثير, وبضعف موقف المقاومين في المصنع والمفرق, فقلت له سأذهب بنفسي للاستطلاع لأعرف قوام العدو وإمكانياته. كنت إلى تلك اللحظة في الحرب لا أملك سلاحاً شخصياً, فطلبت منه أن يعطيني بندقية لي واثنتين لمرافقَيَّ, فأعطاني بندقية (جي 3) وبندقية كلاشنيكوف.

 

تحركت بسيارة الاستطلاع التي كان الشيخ راوي قد زودني بها في أول أيام عملنا المشترك, وتحركت بصحبة مرافقي الصديق ووهاج عزب, واتجهنا في طريق طيبة – مصنع الحديد. وصلنا إلى ربى بالقرب من مصنع الحديد, وكان يتمركز عليها الشيخ طارق النجدي ومجموعته, وأبو همام ومجموعته, وعدد كبير من المقاومين. كان يسندهم ثلاث دبابات وعربتا بي ام بي.

 

اتخذنا موقعا للمراقبة في إحدى الربى الرملية, وحددنا الأهداف مباشرة, ثم أعطينا الأوامر بالرمي, ورمينا بما يقارب الثمانين صاروخا. تمكنا من إيقاف هجوم العدو الذي يبدو أنه كان ينوي الوصول إلى البريقا. وغير المعتدون وجهتهم باتجاه رأس عمران. في تلك الأثناء اتجهت عربة مدرعة (حميضة) نحونا بسرعة, وهي تطلق النيران من رشاش (14.5) مم, فطلبت من رجل على مقربة مني كان يحمل قاذف آر بي جي أن ينزل من على الربوة ويدمر العربة, فرفض, فقام مرافقي وهاج عزب, وأخذ القاذف منه, ونزل يجري ليتخذ له موقعا ملائما لرمي العربة, فسدد ثم رمى, وفي الوقت نفسه, رمت عليه العربة بالرشاش, فأصاب هو العربة ودمرها بينما أصابته طلقة من الرشاش في ساقه حتى قطعتها من تحت ركبته ولم تبقها إلا معلقة بجلدة. صدمت لهول المنظر ولم أنتبه أنه كان قد دمر العربة, لكنني نزلت مهرولا باتجاهه لإسعافه ومعي مرافقي الصديق, حاولنا أن نرفعه لكن كانت ارجلنا تغوص في الرمال المتحركة, فطلبنا من المتواجدين المساعدة, فلم يستجب لنا من الحاضرين الا أبو همام واثنين من مرافقيه. وحملناه فوق سيارة هيلوكس لإسعافه في المستشفى حيث بترت رجله.

بقيت في الموقع إلى ما بعد الظهر, وعدنا إلى المربض الناري, ثم رجعنا بالعربات إلى مقر مقاومة البريقا في المدرسة.

 

في نهاية شهر مايو جاءني الشيخ ناصر بن حدور - وهو قائد مجموعة من المقاومة في جبهة دارسعد - بصحبة الشيخ راوي, وطلبوا مني إسنادهم بالنيران في جبهة دارسعد – البساتين؛ لأنهم يواجهون ضغطا كبيرا من الحوافش. حددوا لي عددا من العمائر التي يتواجد فيها قناصة الحوافش خارج دارسعد على الجوجل ارث. فأخبرتهم أنني لن أنفذ رماية إلا ضمن عملية متكاملة, وطلبت منهم أن يجهزوا مجاميعهم المسلحة؛ لكي تستثمر الرماية مباشرة بهجوم لهذه المجاميع, وأخبرتهم بأني لن أقوم لهم بأي رماية وهم باقون في أماكنهم.

تواصلت مع "الكليش" ليقوم بتصحيح النيران. وحددنا الساعة العاشرة صبيحة اليوم التالي موعداً لبدء القصف ويعقبه الهجوم بالمجاميع في الساعة الثانية عشرة.

وفي اليوم الثاني بدأنا الرماية, وحط الصاروخ في الهدف تماما, فقال لي "الكليش" : أنت في مجال الرمي المؤثر. رمينا برشقتين من عشرين صاروخاً لكل عربة. فأخبرني "الكليش" أن الأهداف دمرت بنجاح. كان الكليش يهلل ويكبر في الهاتف" ويقول : ممتاز ممتاز !

أخبرني بأننا قد دمرنا رتلا متقدما للحوافش صادف تقدمه مع ابتداء الرمي على نفس الموقع؛ فقررت تقديم وقت الهجوم للاستثمار السريع لما تحقق من نتائج. كانت مجاميع بن حدور المعدة للهجوم تربض منتظرة للانقضاض على مقربة كيلو متر واحد, فاتصلت به وأخبرته أن يبدأ الهجوم, فسألني عن الوقت, فقلت له سأوقف النيران الآن فتقدموا. تقدمت هذه المجاميع, والغبار والدخان لا يزال يتصاعد من أثر القصف. عند وصولهم اشتبكوا بالنيران مع الحوثة, واستمرت الاشتباكات لساعة أو ثنتين, ثم سيطروا على العمائر, وتمكنوا من غنيمة شاحنتي دينا وثلاثة أطقم وهيلوكس وكورولا وعدد من البنادق, وقتلوا عدداً من الحوثة وأسروا عدداً آخر.

 

في بداية شهر يونيو, نقلت ثلاث العربات الصاروخية وقطعتي المدفعية التي كنت أضعها في بعض مقرات المقاومة في المدينة إلى معسكر الجلاء, وكان لذلك سببان : أولهما أن الحوافش بعد أن وصلوا إلى التواهي صارت قذائفهم تصل إلى البريقا, فخفت من بقاء العربات بين السكان؛ لأن بقاءها يشكل خطراً عليهم, وثاني السببين توفر الأقبية التي كانت تحوي ذخيرة العربات الصاروخية.

 

التقيت بالعقيد الركن عبدالحكيم عبدالرب, وكان قائدا لمجموعة الدبابات التابعة للمقاومة في صلاح الدين (6 دبابات), فأخبرني بأن لديه في معهد الثلايا قطعا من المدفعية والهاون الثقيل عيار 160 مم. وأخبرني بأن علينا أن نستغلها في المعركة, وطلب مني ضمها إلى القطع التي في مجموعتي. ذهبت بصحبة العقيد المهندس محمد العاتب المتخصص في المدفعية وقام بفحصها وتفقد جاهزيتاها واستكمل الناقص.

وخرجنا في أول يوم من رمضان الموافق 16/6/15م, واتجهنا الى مطار صلاح الدين لتحديد مربض ناري. ووجدنا موقعا ملائماً في مرمى الكلية العسكرية سابقا خلف صلاح الدين باتجاه الشمال. وكان مربضاً ملائماً من عدة جهات, فقد كان منخفضاً وتليه كثبان رملية بحيث يحقق الإخفاء عن أنظار العدو, وتؤمن السبخة التي كنا فيها من نيران مدفعية العدو, لأن القذائف تفقد فاعليتها عند انفجارها في التربة الرخوة.

 

توجهنا لاستطلاع الأهداف في جهة رأس عمران, وكنا قد حددنا وجود مركز لتجميع الذخيرة والمؤن في معسكر خفر السواحل هناك, وعددا من الأطقم في سنترال عمران, وعربة ب م 21 ومجموعة من المدرعات في محافر عمران للحصى. وتم التعامل مع الأهداف في الساعة الثانية عشرة من ليلة 17/6. وقد دمرنا الأهداف, ووجدنا حطام هذه الأسلحة بعد تحرير عمران.

 

 

 

 

تحرير عدن

 

في تاريخ 24 رمضان, استدعاني قائد المنطقة إلى بيت الشيخ صالح بن فريد العولقي, وجلست معه في غرفة, وسألني عن الأهداف التي لدي في جبهة عمران, فذكرت له الأهداف السابقة, وأخبرته بأننا نتعامل معها كلما رصدنا تحركا جديدا, فطلب مني أن أكثف الرماية عليها من الساعة الخامسة صباحا حتى السادسة صباحا, ثم اقطعها في تمام السادسة. أبلغته بأن لدينا مدفع م د (85 مم) جاهز بذخيرته, فطلب مني تقديمه إلى النسق الأول عند سور مشروع الفردوس, وقال إنه يجب أن يكون في تمام السادسة في الخط الأول.

 

انتقلت إلى المربض الناري مباشرة بعد حديثنا, وبدأت بإعداد الذخيرة وفرزها استعدادا لرماية الغد. حددنا الأهداف التي سنتعامل معها, وأرسلت الاستطلاع إلى المراقبة. في صبيحة اليوم الثاني بدأ التمهيد بالطيران مع الساعة الرابعة فجرا, واستمر إلى الخامسة, ثم توقف وحينها بدأنا بالتمهيد الناري المدفعي, ورمت مجموعتنا الأهداف المحددة حتى السادسة صباحا, وبعدها توقفت. وفي أثناء الرماية, ذهبت أنا وقائد المنطقة اللواء أحمد سيف والعميد ركن فضل حسن إلى نقطة المراقبة التابعة لقائد المنطقة في جبهة الفردوس. بعد انتهاء الرماية طلب منا قائد المنطقة أن نُحضِّر لسدود نارية ثابتة ومتحركة على مفرق الوهط لقطع أي تعزيزات معادية.

 

بدأ الهجوم بالتقدم من محورين : المحور الأول هو الطريق الرئيس, وقاد الهجوم فيه العميد فضل حسن, والمحور الثاني بمحاذاة الشاطئ. كانت القوة في حدود اللواء تقريبا, وكانت معهم 15 دبابة تقريبا وسبع عربات بي ام بي, وا3 عربة من العربات المدرعة التي أعطتها الإمارات للمقاومة. وحدثت معركة قوية تمكن المقاومون فيها من الفتك الذريع بالمقاتلين الحوافش. وفي التاسعة حررت المقاومة مدينة عمران وبدأوا بتمشيط المدينة وتطهيرها من بعض الجيوب المعادية التي تبقت بعد الهجوم.

 

في ذاك اليوم فطرنا وجيء لنا بالغداء إلى وسط المدينة؛ لأننا لم نقوَ لشدة الحر والجهد على القيام بعملنا, وكان عملنا هذا قد سُبق بفتوى.

قعدنا لنخزن بعد الغداء, ثم انتقلنا بعد الساعة الثانية إلى اتجاه مفرق الوهط, ولم نجد أحداً أمامنا, ثم جاءنا أمر بالوقوف على مسافة 3 كم من مدينة الوهط. وبدء هناك حشد للقوة, فوصلت تعزيزات بكتيبة دبابات وكتيبة مشاة ميكانيك على عربات بي ام بي 3 إماراتية. في هذه الأثناء كان الإماراتيون والمقاومة قد أرسلوا عناصر استطلاع, وجاءنا عدد من مقاومة الوهط, وأعطوهم ذخائر.

في اليوم التالي تقدمنا ووصلنا إلى مدينة الوهط و لم نجد أحداً من الحوافش في المدينة, فتحركنا في الخامسة عصراً إلى صبر, وهناك تواجهنا مع الحوافش, ودارت معركة شوارع حامية بيتاً بيتاً وطاقةً طاقةً. في تلك الأثناء جاء اتصال لقائد المنطقة, وأخبرني بأن معنا في الغد معركة خورمكسر, وعلينا أن نرجع للتحضير لها, فرجعت بصحبته, وبقيت القوة بقيادة فضل حسن لاستكمال تطهير صبر, وقطع الطريق الاستراتيجية إلى عدن.

 

طلب مني قائد المنطقة تحديد الأهداف لبدء عملية تطهير مطار عدن وخورمكسر في اليوم التالي 27/ رمضان, وطلب مني أن أجمع الأطقم المدفعية بعد إنهاء الرمي التمهيدي لنقلهم فوق العربات المدرعة؛ ليشتركوا في المعركة كقوة مشاة, وطلب مني أن يكونوا حاضرين في الساعة السادسة عند مستشفى المصافي. وسار الأمر بحسب الخطة الموضوعة. واتجهنا إلى المطار. وفي جولة كالتكس رأينا حشداً مهولا من المواطنين العزل أطفالاً ونساء ورجالا. كانوا فرحين وهم يرونا نتأهب لاقتحام المطار, وكنوا يكبرون, وكانت بعض النسوة يزغردن, وكان الجو لا يشبه جو المعركة بل يشبه جو العيد بما فيه من الفرحة.

انقسمت القوة القادمة من البريقا إلى ثلاثة محاور بحسب المهام المسندة إليها, فاتجهت مجموعتان إلى طريق المملاح, ثم إلى جولة سوزوكي, وهناك افترقتا, فذهبت واحدة إلى اتجاه حي غازي علوان لتصل إلى جولة العريش, والثانية اتجهت عبر طريق الشيخ ــ المطار إلى معسكر النصر. أما نحن فقد كان محور هجومنا عبر الطريق البحري للوصول إلى المطار ومعسكر بدر ثم صالة استقبال المسافرين في المطار, ومن ثم العودة إلى معسكر بدر, والذهاب منه إلى جولة معسكر بدر ثم إلى جولة ريجل.

ولم نصادف أي مقاومة من الحوثيين ــ ولله الحمد ــ في القطاع الذي كنا فيه إلا جيوباً بسيطة تعاملنا معها بحزم. أذكر أنه كان يرمينا أربعة من الحوافش من جولة البجع عند وصولنا لإدارة أمن عدن, فتقدمت لهم عربتان مدرعتان وتم القضاء عليهم مباشرة.

 

في تلك الأثناء, كان المقاومون من خورمكسر الذين يعرفون حواريهم جيدا ينتشرون في هذه الحواري, ويطهرون ما تبقى من جيوب مقاومة متناثرة بين البيوت, وحين كنا نتقدم كان بعض المقاومين يبقون للمرابطة في الجولات والنقاط الرئيسة المحددة لهم مسبقا.

 

واصلنا مسيرة التطهير من جولة ريجل, وتقدمنا قليلا إلى مطعم الحمراء الرابض أسفل جبل حديد, واجهنا هناك رمياً من العقبة ومن عند هوائي البث في أعلى العقبة ومن عمائر المعلا, وكنا نرد عليهم. في تلك الليلة توقفنا هناك وأمسينا تنفيذا للأوامر التي تلقيناها.

صبيحة اليوم الثاني وصلني خبر استشهاد ابن عمي عمر عبدالله القاضي. فعدت إلى الموضع الذي استشهد فيه, وانشغلت ذلك اليوم بأمر الجنازة.

 

في اليوم التالي رجعت إلى مجموعتي فوجدتها قد وصلت إلى جولة حجيف. انقسمت هناك مجاميع المقاومة إلى جماعتين, فاتجهت مجاميع التواهي إلى التواهي, واتجهت وأصحاب القلوعة ومعهم مجموعتي نحو نفق القلوعة المؤدي إلى الفتح. بعد خروجنا من النفق مباشرة واجهنا وابل من النيران من جهة هوائي البث في أعلى الجبل المطل على الفتح والقلوعة, ولم نتمكن من التقدم إلا بعد قضاء مقاومة القلوعة عليهم عندما صعدوا إليهم من مرتفع أخر يطل عليهم, فتقدمنا الى فندق الساحل الذهبي, و التقينا هناك بقائد المنطقة وبن عرب وأحمد علي الشدادي نائب رئيس مجلس النواب ونائف البكري وكيل المحافظة حينها, ورئيس جهاز الأمن القومي علي الأحمدي. وكان الكل فرحا.

 

بعد نهاية هذه المهمة عدنا في مهمة أخرى لتطهير كريتر. تحركنا في اليوم التالي, ووصلنا إلى البنك المركزي, ولم نصادف أي جيوب للحوثين؛ لأن المقاومة قد طهرتها في الأيام الأولى, لكن بعد أن فتنا البنك جاءتنا رمايات بـمدفع آلي (23 مم) من جهة قصر معاشيق, فانتشرنا, وأخذنا مواقعا للحماية بين العمائر, وجاءنا الأمر بالمكوث إلى اليوم التالي حتى تصلنا تعزيزات بالدبابات. في صبيحة اليوم الثاني وصلت ثلاث دبابات ت 62, وتقدمت الدبابات, وكانت مجاميع من المشاة تتقدم محتمية بها, ولحقنا الدبابات بالعربات. كنا نتقدم رويدا بينما تقصف الدبابات أي هدف يلوح, وتمكنوا من تدمير المدفع الآلي (23 مم) وعربة مدرعة كانت بالبوابة, وتم تصفية أعشاش القناصة فوق العمائر وفي الجبل نفسه. في العاشرة وصلنا إلى البوابة واستمرت الاشتباكات بالنيران حتى الواحدة ظهراً. وبعد أن توقفت النيران من جهة العدو ترجل المقاتلون من العربات وبدأوا بالتقدم باتجاه القصر عبر الطريق الإسفلتية الصاعدة, ورمانا أحد مقاتلي العدو ممن بقي على قيد الحياة فأصاب مقاتلاً في يده, وعلى الفور رماه أحد المقاومين, اسمه عصام طاهر, فأرداه قتيلا.

 

عندما كنا نصعد إلى استراحة معاشيق, رأينا كثيراً من جثث الحوافش قد تمزقت بفعل النيران, وكان هناك كثير من القتلى على جانبي الطريق. وصلنا إلى القصر ووجدناه مدمراً بنيران الطيران. كان وصولنا إلى الاستراحة في الساعة الثانية. وقمنا بتمشيط المباني وكان قصر التشريفات مدمراً. لم نجد أياً من مقاتلي العدو أو جثثهم في المباني, بل بعض الذخيرة التي خلفوها. قعدنا في الاستراحة وكان معي مرافقي عصام طاهر. فقلت له :

-     وعدتك في رمضان بأننا سنخزن في قلعة صيره يوم العيد !

-     أيوه صح !

-     لكن وعدي تأخر أربعة أيام.

ثم ذهبنا بسيارتي إلى خورمكسر ولم نجد مطعما, فتوجهنا إلى جمعية الهلال, وكان بعض مرافقيّ من خورمكسر حي اكتوبر, فاحضروا لنا غداء, وأخذنا القات وخزنا في صيرة؛ لأفي بوعد قطعته على نفسي بأن لا يأتي العيد إلا ونحن نستمتع بالتخزين على ربى أرضنا المحررة من دنس الحوافش.

 

معركة تطهير أبين

 

بعد عشرة أيام جاءني العميد باعش, وقال لي : لدينا مهمة تحرير أبين وأريدك أن تكون معنا. فقلت له:

-     تعرف أنني عسكري ولا أستطيع أن أتحرك إلا بتعليمات من قائد المنطقة.

-     وهو كذلك. سنبلغ قائد المنطقة وهو سيبلغك.

-     تعرف أن المدفعية بحاجة إلى شاحنات تقطرها, ونحن نفتقر إليها فاعملها في حسابك.

-     سأرى قائد المنطقة وإن شاء الله سيكون خيراً.

 

اتصل بي قائد المنطقة في المساء, وطلب مني الحضور إلى استراحة المصافي, فذهبت إليه ووجدت العميد فضل باعش, وسلمت عليهما, فقال قايد المنطقة :

-     تعرف أن معنا مهمة تحرير أبين, وسيكون فيها عبدالله الصبيحي وفضل باعش وخالد النسي, ونريدك أن تدعمهم بالنيران في أثناء تنفيذهم للمهمة.

-     حاضر, سأنفذ, لكن عندي نقص في ذخيرة المدفعية ولا توجد لدي شاحنات لقطر المدافع, ومجموعتي لا يملكون إلى الآن الأسلحة الشخصية.

-     أما السلاح الشخصي فلا يوجد لدينا, لكن أعدك بأننا سنوفر لهم, وأما الذخيرة فالشيخ راوي هو القائم على معسكر رأس عباس, وسأعطيك له رسالة ليوفر لك الذخيرة التي تريدها, وأما الساحبات فسنطلب من محافظ أبين أن يوفر لك مبلغاً لاستئجار سيارات للذخيرة والمدافع.

 

وعليّ أن أقول هنا أن قائد المنطقة إلى اليوم لم يفِ بوعده بتزويد مجموعتي بالسلاح الشخصي.

 

في تلك الليلة اتصلت بالأخ أديب العيسي (ناشط حراكي وأحد القادة البارزين للمقاومة) وطلبت منه أن يوفر لي شاحنات لقطر المدفعية وحمل ذخيرتها, فقال لي : على طول وإذا أردت أن أرسلها لك الآن فسأرسلها. فقلت له: دعها إلى صبيحة الغد.

وعلي هنا أن أذكر أن الشيخ أديب العيسي من الرجال الذين وقفوا ودعمونا منذ الأيام الأولى للحرب, فكان غالبا ما يزورنا في الأسبوع مرتين إلى مواقعنا, ويوفر لنا دعما ماليا استطعنا به توفير احتياجاتنا اليومية من الطعام والشراب وغيره, في وقت كنا نفتقر فيه لوجود شؤون إدارية تقوم بتوفير هذه الأمور. كان في كثير من الأحيان يقوم بشراء المحروقات وقطع الغيار التي نريدها للسيارات, أو يدفع لمن يقوم بصناعة قطع غيار للمدافع في المخرطة. وكان والحق يقال يعطي للمقاومة عطاء من لا يخشى الفقر وكان يعم بعطائه ولا يخص.

 

في يوم 27/7/2015م ــ فيما أظن ــ التقيت صباحاً بأديب العيسي في مبنى الرعاية الصحية في المنصورة ــ وكان أحد مقرات المقاومة ــ فأعطانا سيارتي نقل وأرسل معنا فوق ذلك أربعة من مجموعته ليعينونا. اتجهنا بالشاحنات إلى رأس عباس وحملناها بالذخيرة, وتوجهنا إلى المرمى لقطر المدفعين (130 مم ) و (85 مم). وانتظرنا إلى المغرب حتى نقطرها في ستر الظلام, وحتى لا يستطيع رصاد العدو معرفة ما ننقل. اتخذنا خط مصنع الحديد – طيبة ثم طريق المنصورة ثم جولة السوزوكي حتى انتهى بنا المطاف في حي غازي علوان. كنت قد سبقت المجموعة بساعتين لتحديد مربض ناري مستور. عند وصولي وجدت العميد باعش قائد لواء النصر بانتظاري, فطلب مني أن أجد موقعاً ملائماً ليكون مربضاً نارياً, فكان هذا الموقع حوش بن محفوظ بمحاذاة الشاطئ. كان هذا الموقع يتمتع بإخفاء طبيعي, كثبان رملية حول السور؛ فوضعنا المدفعية بداخل الحوش في حفريات أعدت لتكون أساسات.

 

حددت نقطة مراقبة, وكانت عمارة قيد الإنشاء, تبلغ العشرة أدوار تقريبا. طلعت إلى المراقبة لملاحظة أي تقدم مرتقب للحوافش, وكانت أطقم المدفعية قد وصلت, واحتلت مواقعها في العاشرة والنصف ليلا. راحت الأطقم تجهز ذخائر المدفعية للرمي بتنظيفها وتزويدها بالصواعق. بعد صلاة الفجر جاء باعش مع قائد المنطقة وقالوا: حدد الأهداف التي تراها مناسبة, فقلت لهم: ما الأهداف التي تريدونا أن نرميها ؟ فقال قائد المنطقة: سأحدد لك أربعة أهداف, هي: جولة المجاري, نقطة العلم, محطة شبوة, ومحطة بحر العرب. أي أهداف جديدة تظهر تعاملوا معها مباشرة. فقلت له متى سيكون التمهيد ؟ فقال: سأحدد لك ساعة الصفر في المساء.

 

ذهب قائد المنطقة والعميد باعش, وذهبت أنا إلى المراقبة, وقمت بتحضير المعلومات الأولية لرمي الأهداف المسندة لنا. في الظهر تغدينا وخزنت وباعش, وفي المساء جاء قائد المنطقة وجلسنا معه في إحدى الفلل, فأسند إلى باعش مهمة الهجوم في السابعة صباحا باتجاه جولة المجاري ثم العلم والوصول إلى محطة شبوة, وأسند لي القيام برمي التمهيد من السادسة صباحا إلى السابعة إلا خمس دقائق.

 

قمنا صبيحة اليوم التالي, وصلينا الصبح, وفي الخامسة بدأ تمهيد الطيران على العمائر الواقعة بين جولة المجاري وحي غازي علوان على الطريق الرئيس, ثم انتقل الطيران إلى رمي الأهداف المرصودة واحداً تلو الآخر, جولة المجاري فالعلم فمحطة شبوة فمحطة بحر العرب. نفذ الطيران مهمته, فأعقبناه بالمدفعية بحسب الخطة. بعد رمي الطيران, شهدت ستة من الحوافش بالمنظار يخرجون من جانب أحواض المجاري باتجاه البحر وتحصنوا بين كثبان رملية. وعلى الفور قمت بنقل النيران من الجولة إلى الكثبان الواقعة يمينها. رمينا في حدود عشر قذائف, ورأيت أننا قد أصبنا الهدف, ثم نقلت النيران إلى مصنع بحلس ونقطة العلم, ثم قطعنا نيران المدفعية في السابعة إلا خمس دقائق لنسمح للمشاة بالتقدم إلى جولة المجاري. في هذه الأثناء بدأنا بالتمهيد الناري بالعربات الصاروخية على الأهداف التالية, محطتي شبوة وبحر العرب.

 

كان تشكيل المعركة من نسقين واحتياط أسلحة مشتركة. كان العميد فضل باعش قائدا للنسق الأول, ومهمته الوصول إلى محطة شبوة, وفي النسق الثاني العميد الركن عبدالله الصبيحي الذي قاد أحد ألوية الحزم التي شكلت في الحرب, وكانت مهمته تطوير الهجوم والتقدم إلى ما بعد محطة شبوة, لكنه لم يشارك في الهجوم, وتوقف في محطة شبوة لثمانية أيام تنفيذاً لأوامر عليا. كان لدينا أيضا احتياط أسلحة مشتركة بقيادة الشيخ هاشم السيد قوامها كتيبة, ولديهم 15 عربة مدرعة, ومن القوات الإمارتية سرية بي ام بي 3. وكانت هذه القوة متمركزة في المطار, وكانت مهمتهم تعزيز القوة المهاجمة عند إعاقتها عن التقدم.

 

لقد اختلفت معركة تحرير أبين عن معركة تحرير عدن, فمعركة تحرير عدن كانت معركة طويلة, وكانت الجهود فيها ارتجالية في معظم مراحلها إلا في الأيام الأخيرة, مع انطلاق معركة تحرير رأس عمران, وما تلاها, عندما بدأ التنظيم والإعداد الجيد والتنسيق في كل الهجمات مع قوات التحالف عبر قيادة المنطقة, أما معركة تحرير أبين فقد كانت منظمة ومنسقة كليا منذ البداية, وقد خاضتها القوة بقرار القائد الأعلى للقوات المسلحة ولم يعد القتال فيها ارتجاليا.

 

توقفنا ثمانية أيام في محطة شبوة بحسب الأوامر, وفيها استمر تبادل القصف المدفعي بيننا وبين قوات العدو, وقبل استئناف الهجوم على العدو بليلة ــ وكان ذلك في ما أظن في تاريخ 3/8/2015م ــ تلقينا الأمر القتالي من قائد المنطقة بتحديد المهام ــ كل بحسب اختصاصه ــ لتطوير هجومنا الذي كنا قد توقفنا خلاله. وكانت مهمتي تدمير الأهداف التالية: محطة بحر العرب للمحروقات, ثم مصنع الحديد قبيل دوفس, ثم محطة دوفس للمحروقات, ومفرق الكود-الطريق الدائري, ثم ملعب خليجي عشرين, ثم استراحة الاتصالات ومفرق زنجبار – الملعب ومعسكر لواء الوحدة, وفي الأخير منشأة الاتصالات قبيل قرية الشيخ سالم.

 

قمت بإعداد المعلومات الأولية للرمي على الأهداف القريبة استعدادا لرميها في الصباح, لكن قبيل فجر ذلك اليوم فوجئت بالعميد باعش يوقظني من النوم بصوت عالي ويستعجلني, وقد أبلغني أن هناك قوة للعدو متقدمة من جهة صحراء الحرور لتهاجم قوة النسق الأول من الميسرة, فانتفضت من على فراشي فزعا. رأيت في ذاك الوقت انتشاراً لحوالي اثني عشر طقما معاديا, استطعت تمييزها بأضوائها, وكانت تتحرك ببطء شديد. اوقظت أطقم المدفعية, فحضروا. فحددت لطقم المدفع (د 30) أن يستهدف من اليمين إلى اليسار الأطقم من واحد إلى ستة, وحددت للمدفع (85مم) الأطقم من سبعة إلى اثني عشر, وأعطيتهم الأمر بمباشرة الرمي حالما يكونون جاهزين. وفي غضون خمس دقائق بدأ المدفع (د30) بالرمي واستطاع المدفع أن يدمر ثلاثة من الأطقم المتقدمة على الفور, فأطفأت باقي الأطقم الأنوار الكاشفة, ورأينا اشتعال الأطقم التي أصيبت, وعرفنا أن القوة المغيرة قد بدأت بالفرار عندما رأينا الأنوار الخلفية الحمراء, واستمرينا في الرمي, فأصاب المدفع (85 مم) هدفاً من الأطقم خلال فرارها. كبرنا وهللنا لهذا النصر وكان هناك من يقفز من الفرح.

صلينا الفجر بعد ذلك ثم تناولنا الإفطار, وكان خبزاً عربياً وفاصوليا باردة من الليل وشاياً طبخناه بأنفسنا.

 

بدأ الطيران يقصف محطة بحر العرب, ثم واصل قصفه بعد ذلك إلى العمق, وبدأنا بعد الطيران بالرمي بالثلاثة المدافع التي لدينا على محطة بحر العرب ومصنع الحديد, وتقدم النسق الثاني بقيادة العميد الركن عبدالله الصبيحي, وكان مشكلا من ثلاث دبابات ت 55 وعربتين بي ام بي وعشر عربات مدرعة, وكانت قوته البشرية بقوام كتيبتي مشاة. حين تقدمت القوة انفجرت بعض الألغام بثلاثة أطقم, ثم بسيارة إسعاف جاءت لتسعفهم, وقتل كثير من أفراد الأطقم وجرح الباقون. حاولت الدبابات الثلاث مع عربتي بي ام بي بصحبة مجموعة من المشاة الالتفاف من الجانب الأيسر من جهة الصحراء, فتصدت لهم شراذم العدو, فنكصت الدبابات بعد وقوع قذائف الآر بي جي و(ب 10) على مقربة منها, وتعرض المشاة على هذه الدبابات لنيران القناصة فترجل المشاة بعد مقتل 3 منهم. تراجعت الدبابات إلى الخلف دون أوامر, واخذت ترمي من مواقعها التي انطلقت منها.

 

بدا الموقف كأنه قد جنح لغير صالحنا. في تلك اللحظات زج بجزء من احتياط الأسلحة المشتركة, وكان سبع دبابات لوكلير إماراتية وأربع عربات ب ام ب 3 إمارتية. جاءت هذه القوة في رتل ثنائي إلى محطة شبوة, وهناك انتشرت القوة, وبدأت الزحف على مواقع العدو في محطة بحر العرب. وانفجرت الألغام بعربتي ب ام ب 3 وقتل سبعة من الجنود الإماراتيين, وانفجر لغم بدبابة لوكلير فقطع جنزيرها, وهنا توقف الهجوم وتوقفت الدبابات الإماراتية. وبعد برهة من الزمن فوجئنا بأربع طائرات أباتشي تأتينا من الساحل من جهتنا اليمنى فدمرت الأهداف المعادية واحدا تلو الأخر. كانت الطائرات تتعاقب جيئة وذهابا على الأهداف متخذة مسارا على شكل الرقم ⑧. في تلك اللحظات ارتفعت معنويات المقاتلين, وهللوا وكبروا, ثم راحوا يتقدمون بالهجوم على دفاعات العدو, فاكتسحوها. كانت خسائر العدو في هذه المعركة 15 قتيلا, وفر من بقي حيا.

 

كنت قد تقدمت مع طاقمي للاستطلاع راجلين من محطة شبوة ضمن القوة المتقدمة, وكنا بموازاة الساحل. وصل في أعقابنا العميد عبدالله الصبيحي, ورآنا على تلك الحال فترجل هو أيضا, وتقدمنا حتى وصلنا إلى الكثبان الرملية القريبة من محطة بحر العرب, وعندما انسحبت الدبابات بقينا ثابتين في مواقعنا. في ذلك اليوم استمرت القوة الراكبة في استثمار النصر, ومطاردة فلول العدو الفارة, فوصلت القوة حتى مفرق الكود – الخط الدائري. وصلتُ العصر إلى مفرق الكود في أعقاب القوة المتقدمة. في منتصف الليل طلبت من العميد الصبيحي عربات لسحب المدافع إلى المواقع الجديدة في محطة محروقات الكود, وكانت لدي الأهداف التالية: ملعب خليجي عشرين, ومفرق زنجبار – الخط الدائري, ومعسكر لواء الوحدة, ومنشأة اتصالات في الشيخ سالم التي كانت تحوي شرذمة من جند العدو.

 

في اليوم التالي رمينا الأهداف المحددة, وبدأت القوة بالتقدم, ووصلت ذلك اليوم إلى قرب قرية الشيخ سالم, هناك وقعت اشتباكات مع أحد فلول الأعداء لساعة تقريبا, ثم اكتسحتهم القوة, ثم تقدمنا إلى شقرة, ولم نجد في طريقنا أي عائق أو تواجد للعدو.

قبل وصولنا إلى شقرة وجدنا على مقربة من المدينة أكداساً كبيرة من براميل المحروقات مخفية تحت الأشجار في أحراش السيسبان, ووجدنا كذلك خزانات سعة 1500 و 2000 لتر مليئة بالبترول والديزل والزيوت, وعبوات كثيرة من الشحم, ووجدنا عشرات الثلاجات مثل التي تستخدم في الدكاكين مع مولدات الكهرباء وفيها أدوية مخزونة. وقد لاحظنا أنهم كانوا يضعون المولدات في حفر عميقة, ثم يغطونها بغصون الأشجار الكثيفة, ولا شك أن هذا التدبير يراد به حجب المولدات عن الكشف بالكاميرات الحرارية التي زودت بها طائرات التحالف.

 

تجاوزنا شقرة حتى مفرق أحور – العرقوب. هناك وقعت اشتباكات بيننا وبين طقم كان يحتل النقطة فدمرته الدبابات على الفور. وجاء من جهة العرقوب طقمان فيما يبدو لتعزيز الموقع لكن تم تدميرهما بسهولة.

 

أمسينا تلك الليلة في المفرق. هناك جمعت المدافع استعدادا لمعركة اليوم التالي. صبيحة اليوم التالي رمينا على طريق العرقوب لتمشيطه من أي تواجد محتمل لفلول العدو استعداداً للرحيل, لكن فوجئنا بعدد من المواطنين يخبروننا بأن هناك أكداس من الذخائر على طريق شقرة – أحور مخبأة في أحراش السيسبان بجانب الكسارة, فانتقلت فورا إلى الموقع. كان الموقع مكوناً من أحراش كثيفة لأشجار السيسبان وبينها مسالك متشعبة للسيارات. كانت المسالك في تربة ملحية صلبة. ذهلت لما رأيت من أكداس الذخيرة المخفية بعناية تحت الأشجار. كان الأعداء يقصون فروع الأشجار الممتدة على الأرض أو قربها, ويتركون الفروع العليا ليتمكنوا من إيجاد مساحة تحت أشجار السيسبان؛ لتكدس فيه الصناديق, ثم يستفيدون من الأغصان المقطوعة في تمويه الصناديق وحجبها بوضعها عليها فلا تستطيع طائرات التحالف أن ترصدها. كانت أكداس الذخيرة بالمئات, وكانت مفروزة ومرصوصة بعناية, ويبدو من خلال هذا التنظيم الدقيق في فرز الأكداس وتصنيفها أن من أشرف على هذا العمل ضابط من المتخصصين في إدارة التسليح. كانت الذخائر تصنف بحسب السلاح, فبحسب النوع. كانت ذخيرة المدفعية تفرز في جانب, فتصنف بحسب عيار المدفعية.

 

كانت هناك أكداس من ذخائر الرشاشات بمختلف عياراتها, وألغام م د, و م أ, وقنابل يدوية, وقذائف (ب 10), وكان الأكثر إذهالا وإثارة للتساؤلات وجود صناديق ذخائر لأسلحة متوسطة مثل الذخائر التي أنزلتها قوات التحالف. ولعلها مما باعه بعض تجار الحروب.

 

حين وصلنا رأينا كثيراً من المواطنين منغمسين في النهب من هذه الأكداس. نصحناهم لكن لم يعرنا أحد سمعه. كانوا أكثر منا عددا. رأيت بعض المواطنين يرمي بالحشوات الدافعة لقذائف المدفعية ليحصل على ظرفها الفارغ المصنوع من النحاس الأصفر. وكان البارود منثوراً في كل مكان, و لولا حفظ الله  لوقعت كارثة.

 

حملنا ما استطعنا حمله من ذخائر المدفعية, وصواريخ الـ (ب م 21), ثم توجهنا خلف القوة المتقدمة باتجاه العرقوب بقيادة العميد باعش. ولحقت القوة لمتقدمة في "امعرقوب". وبعد أن تجاوزنا "امرُكبة", ووصلنا إلى الوادي الواقع بين جحين ونقطة الأمن المركزي السابقة فوجئنا بنيران قناصة تأتينا من المرتفعات القريبة, فتوقفنا على الفور, وانتشرت القوة وتقدمت صانعة طوقا على أجناب الفلول ومن خلفهم.

 

بعد نصف ساعة من الاشتباكات الحامية تمكنا من إبادة هذه الشرذمة, وكانوا في حدود الـ 17 مقاتلا حوثيا. تقدمنا بعد ذلك إلى جهة لودر, وبعد أن تجاوزنا موقع الاشتباك بقرابة كيلومترين وجدنا في إحدى السِّيَل على يمين الطريق موقعا من مواقع الأمداد المموهة تحت أشجار السمر. وجدنا أكداسا كبيرة من كراتين المياه المعدنية والعصائر بكافة أنواعها, والجبن والحقين واللبن والتمور, وأكداسا من كراتين تونة الغويزي, وشاهدنا أيضا أكداسا من الأكياس البلاستيكية التي تحوي الخبز العربي. لقد كان اختيار هذا الموقع لتكديس إمدادات الطعام ينم عن حذق ومعرفة جيدة بطبيعة الأرض ومتطلبات خزن المواد الغذائية؛ فهذا المكان يتميز باعتدال الجو, وعدم ارتفاع الحرارة, بخلاف باقي الأماكن في محافظة أبين. وهذا المكان سيحافظ على هذه الأطعمة من التلف لأطول فترة, وعلى مقربة منه كانت سقائف خزن البصل في جحين التي كانت تتبع مؤسسة الخضار والفواكه, والتي كانت تحفظ المخزون الاستراتيجي من البصل ويصرف منها على مدار العام. أخذنا حاجتنا من هذه الأكداس, ثم انطلقنا.

 

وصلنا إلى امصرة, فخرج المواطنون يستقبلوننا فرحين. كان الأطفال يقفزون إلى أحضاننا, ويعانقوننا ويقبلوننا, و وكذلك كان الكبار يصافحوننا, والكل كان يلقي علينا عبارات مثل : الله ينصركم, حررتونا من هؤلاء الكلاب. اعطونا ماء وعصائر وبعض من كان لديه خضارا رموها لنا الى السيارات.

 

تقدمنا إلى امعين, وهناك على مدخل البلدة صادفنا نقطة للحوثيين, وكان فيها أربعة منهم جالسين يأكلون غداءهم, ولم يعلموا بقدومنا إلا ونحن على مقربة منهم, ففروا حالما رأوا القوة المتقدمة صوبهم باتجاه قرية عراكبي الواقعة على ميمنة امعين. لكن رشاشات الدشكا المحمولة على العربات المدرعة كانت أسرع منهم فأردتهم قتلى.

 

تقدمنا في بلدة امعين, وكان في طليعة القوة حسين محمد عرب, وأحمد علي الشدادي, وقائد القوة العميد فضل باعش. ووصلت مقدمة الرتل إلى مقربة من مطعم الحضرمي, وفوجئوا بإطلاق نيران من لوكندة على يمين الطريق وبيت أصفر تحصن فيه الحوافش. استشهد خمسة من مقاتلينا على الفور, وكانوا من حراسة الشدادي وبن عرب, وأصيب مختار حيدان وطقمه بإصابات بالغة. توقف الرتل وانتشر المقاتلون بين البيوت. وانطلقت أنا ومرافقي عصام طاهر مقبل إلى طقم حيدان. أحاول اسعاف حيدان وأفراد طقمه, فحملناه على السيارة وأفراد طقمه, وكنا نحاول إسعافهم والرصاص ينهمر من حولنا, ولولا لطف الله لكنا من الهالكين.

 

قفز أحد الرجال إلى السيارة ليسوقها, لكن انطفأ محرك السيارة واستعصى على العمل, فاضطررنا لدفعها إلى الخلف أنا وعصام حتى أقرب ساتر من المباني لنحتمي خلفه. وجاءت سيارة اخرى فحملناهم فوقها. في هذه الأثناء كان باقي المقاتلين قد انتشروا وطوقوا المبنيين, وكنت مع سبعة من مقاتلينا قد التففنا من خلف المبنيين. ورأينا مقاتلي العدو وهم يرمون على مقاتلينا, فصوبت بندقيتي (جي 3) على رأس أحد الحوافش, وأطلقت ! ويا للهول ! الطلقة كذّبت. ومن شدة غضبي لخذلان البندقية لي رميتها على الأرض بشدة. لم يتنبه مقاتلو العدو أننا خلفهم والا لكانت فرصة ذهبية لهم ليرفعوا في أعداد قائمة الخسائر لذلك اليوم. وكان مرافقي عصام حصيفاً, فلم يترك الفرصة تفوته فصوب بندقيته الكلاشنكوف على رأس هذا الحوثي فأرداه قتيلا, ولم يتنبه العدو لمصدر النيران لشدة انشغالهم بالنيران الكثيفة التي كانت تأتيهم من أمامهم, أما أنا فقد جلست خلف ساتر وفككت البندقية لأعلم سبب الاستعصاء, فوجدتها مليئة بالأتربة, فخلعت فانيلتي العسكرية ونظفت بها البندقية, ثم ركبتها, ودخلت في غمار الاشتباك حتى قضينا على هؤلاء تماما.

 

استأذنت من قائد القوة العميد باعش للذهاب إلى قريتي امسلامية, فأذن لي, فذهبت بصحبة عدد من مجموعتي, وعند وصولنا إلى القرية كان في استقبالنا الصحفي حسين الحنشي وعدد من الأهل. تغدينا هناك من القليل الذي جاد به الأصحاب, وكانت القرية خالية من النساء لنزوحهن في بداية الحرب بعد أن صارت القرية ساحة مواجهات احتلها الحوثة إثر ذلك.

 

في العصر توجهنا إلى محطة اليافعي في منتصف الطريق بين لودر وامعين للحاق بالقوة, وعلى إثرنا وصلت عربات (ب م 21) التي كانت مرافقة لقوة الصبيحي, وكانت القوة المقاتلة بقيادة العميد باعش قد واصلت تقدمها عقب فراقنا لهم, ووصلوا إلى منتصف عقبة ثره. لحقت بالعميد باعش إلى عقبة ثره وابلغته بوصولي, وكان عنده قائد المنطقة, فقال لي قائد المنطقة:

-     شف لك موقع مناسب للرمي.

-     أنسب موقع هو معسكر لودر.

-     وهو كذلك.

صبيحة اليوم التالي اتخذنا مربضا ناريا للمدافع وآخر على مقربة منه للعربات الصاروخية في معسكر لودر, وكان للإماراتيين مدفعان ذاتيا الحركة عيار 205 مم ضمن احتياط الأسلحة المشتركة قد اتخذ لهما موقعا في منطقة امفيض قبيل امعين. وقسمنا بيننا قطاعات النيران بحسب مدى المدفعية, وفي اليوم التالي, كنا مدعوين إلى وليمة في منزل المحافظ الدكتور الخضر السعيدي في قرية الجوف. على الغداء, أبلغ قائد المنطقة اللواء أحمد سيف العميد باعش بأنه قد أسندت مهمة تطهير مديرية مكيراس إلى الشيخ هاشم السيد.

 

قام الشيخ هاشم السيد بثلاث هجمات على رأس عقبة ثره, وكنا نحن نساندهم بالنيران, لكن للأسف أن هذه الهجمات قد أخفقت في تحقيق النصر. بعد ذلك قام قائد المنطقة بتجميع عدد من أهل منطقة مكيراس والعواذل, وانتقل بهم عبر طريق امّحلحل إلى معسكر كريش؛ ليلتف بهم على الحوثة, وحاولوا التقدم مرتين لكنهم أخفقوا, وتقدم على إثر ذلك الحوافش إلى معسكرهم واحتلوه.

 

بعد تطهير لودر رأينا فتورا من قيادة المنطقة في تحرير مكيراس, ففي البدء كان الأمداد بالطعام والمياه والمحروقات يتناقص تدريجيا حتى قطع علينا بعد شهر من خوضنا للعمليات في المنطقة, أما الذخائر فلم تصرف لنا أي رصاصة أو قذيفة مدفعية واحدة غير التي ُصرفت لنا عندما انطلقنا من عدن. نفدت الذخائر القليلة التي كانت بحوزتنا فصارت المدفعية عديمة النفع كأنها خردة حديد,

 

وبقينا أسبوعا كاملا لا نتلقى غذاءً إلا ما جاد به الريفيون علينا مع ما بهم من خصاصة. راحت نداءاتنا إلى قيادة المنطقة باستئناف الإمداد والتموين هباء, فاضطررت إلى سحب المدافع ووضعها بعيداً عن مسرح العمليات لعله يأتي يوم ويعاد تنشيط الجبهة. وطلبت من مجموعتي أن يعودوا الى بيوتهم بعد أن صرت عاجزا عن توفير حقوقهم الأساسية.

 

السيرة الذاتية للعقيد / جلال القاضي

صاحب هذه السيرة هو العقيد الركن جلال صالح القاضي. من مواليد عام 1972, عدن خورمكسر, معسكر جمال. حاصل على المؤهلات الآتية:

1-   دكتوراه العلوم العسكرية (زمالة كلية الحرب العليا) الأكاديمية العسكرية العليا, الدفعة الـ6.

2-   ماجستير علوم عسكرية (كلية القيادة والأركان) الأكاديمية العسكرية العليا, الدفعة 12.

3-   بكلوريوس علوم عسكرية الكلية الحربية, الدفعة 28.

المناصب التي تقلدها :

1-   قائد بطارية مدفعية في اللواء 55 حرس جمهوري.

2-   مدير إدارة العمليات, دائرة المدفعية والصواريخ بوزارة الدفاع.

3-   رئيس شعبة العمليات بدائرة المدفعية والصواريخ بوزارة الدفاع.

4-   كبير المعلمين بمعهد المدفعية والصواريخ في باب المندب.

5-   نائب مدير معهد المدفعية والصواريخ.

6-   أسند إليه الشهيد اللواء الركن علي ناصر هادي قيادة مجموعة المدفعية للمنطقة العسكرية الرابعة خلال معركة تطهير عدن من الانقلابيين.