آخر تحديث :الأحد-05 مايو 2024-12:20م

أدب وثقافة


درب العودة

السبت - 24 ديسمبر 2016 - 12:39 م بتوقيت عدن

درب العودة

كتب / رشا احمد

إهداء إلى : إبن الجنوب..

 

رحلت مع سفنُ الرحيل محملاً بحقائب الحنينْ والحسرة،وبعض عطور الذاكره..

تركت ورائي وطناً كان يحتويني، تركت مجبراً عيون ورائحة أمي الحنون ، ونسائم الورد وطيور الأملْ، وأثير البحر.

تركت مرغماً روحي وقلبي وأشياءً مني أو كلي، ومشيت في دروب الألم، وغادرت شواطئ الانتظار الطويل ،لأركب سفنُ الرحيل جسداً خاوياً بلا روح.

 

لم يكن الرحيلُ خياراً بل كان قراراً جائر ..قراراً صنعته أيادي الظلم العابثة و مطايا الخوف والأقدار المتلونه..

 

عندما يتخلى عنك كل شئ ولم يعد هناك لك وطن، تشعر باليتم  القاهر والخوف يستشري في ثنايا الجسد المنهك  كمرض عضال لا يكاد يفارقه و لاشفاء منه إلا بالهروب صوب الأفق البعيد، والخوض في غمار بحار من المجهول..

 

لقد طالت الغربه لسنة أو لسبع سنوات أو أكثر، وطالت الحسرة والخيبة معها وطال الألم يغلي في بوتقة الأمل التائهة الصدأة , تتلقفه أيادي الضياع و تزدريه شباك الغربة وتعبث به مجون السنون،  في وحشتها المدفونه في  أجمل بقاع الأرض و مدنها المترفة العملاقة  كالقبور المتراصة، مظلمة ومخيفة ، وباردة موحشة ...باردة جداً كأنها النداء الأخير قبل الجمود الأبدى في ترائبها الصامتة، ترتجف روحي لها قهراً وحنيناً لوطن لست ألقاه و لست انعم بدفئة و حنانه في هذا الجحيم المتلاطم .. و ماضٍ لست اطوله أو أحن اليه , يا لصبا غربتي الموحشة التي دفنت معها سلالم الدروب الى وطني , ولكل شيء يربطني به هناك.

 

مرّ من عمري سنين في الغربة والاغتراب، لم أشعر بطعم شيء هنا، لم أعرف الحياة والسعادة هنا، ولا أي شيء، كل شيء باهت لا لون له .. ماديٌ جاف لا طعم له ...كم أشتاق للعودة الى جذوري و اصلي المتشعب في باطن التربة .. الغائر في اعماق وجدان يحنّ اليّ و أحنٌ اليه..

 

قررت العوده ، وبدأت أخطو أولى خطواتي نحو ذلك الدرب الطويل , لواعج و مواجع, ترقب و أمل .. إحتضار ببطئ على طريق الحياة, تناقضات صارمة تعصف بي كسيف يصارع نفسه و درع يقاوم ذاته في حلبة صراع الوجدان، رأيت طيور الشجن تحلق في السماء أناديها  باستنجاد و أمدّ لها يديّ , من هناك تبدت يديّ الشوق والحنين تتجاذبني لوهلة , وخيوط القدر تشدني نحو تلك المسالك بعنفوان و رغبة آسرة متنامية و جموح متناهٍ طاغٍ.

 

بدأت السفر الى روحي وحياتي التي تركتها هناك وغادرتها مجبراً ذات يوم شقّ فيه البقاء و عزّ فيه الرحيل.

قررت العودة لأن الزمن كاللص يسرق من خزائن العمر أجمل ما فيه من أيام  وأروع  ما فيه من حكايات و لحظات، لم يعد هنالك وقت ، ولا أدري ماتخبئه الأقدار من أسرار مرة أخرى, مغامرة لا أطيق تكرارها أو أتحمل تبعاتها.

 

جمعت بقايا حقائب العمر والحنين، واستجمعت قواي و حزمت بقايا ما تبقي من أوراق وحبر و جسد ، وبدأت المضي قدماً في  درب العوده نحو الحياه، لم يكن الطريق طويلاً أو المسافه بعيده ولكن.. ..ولكن  المآسي والآهات من جعلته يبدو كذلك, تسبقني شوقاً له و تربط الذكريات و تنسجها من الماضي الى الرحيل لتعانق العودة في دراما غريبة أشبه بنسيج يلف جسدي و يحتوية و يصنع منه لباساً متناقض الألوان , جميل لكنه آسر بألوانه اشبه بقفص يحبس فيه قصتي دون أن يعلنها للملأ, أغرب ما فيها الفضول و الترقب لملاقاة نصفي الآخر في حنايا تلك الجبال و القفار و بين وداينه و سهولة يكمن سر البقاء. عجزت عن التفكير سوى الذهول و النظر بعيون تبرق لشعاع قادم ما بين السحاب,, الأفق الذي تغنى للقائي و الطريق الى الوطن الذي  لا أعرف سواه و لا أجيد غيره..

 

وبدأتُ السفر في الدرب المخظب بالفتون المزين بعناقيد الأمل وقناديل الشجنْ، لأرى ضوء الشمس و نور القمر، لأرى طيور الفرح تتراقص في سماء مدينتي على أوتار خيوط الشمس الذهبية وعلى أنغام أمواج البحر العتيّة وحفيف الشجر الشجي ، وأريد أن أستنشق نسيم البحر العليل لتدبّ في اطراف جسدي الذابلة روح الحياه مرة أخرى، واتناسى مواجع العزله و مرارة الغربه و تنفض عن كاهلي حمل السنين.

 

في النهاية ، رأيت نوراً أهوج يشعّ من البعيد وعينين تتلألأ كأنهن لؤلؤتين في أصداف هادئة  تبرق من الأعماق  جمالاً و نشوة ..  إنها عينيّ أمي الحنون ، ويديّها  تلوح لي مع إبتسامات فرح تحكي الكثير و الكثير مع حزن عتاب باهت، وغصّات بكاء مكتومة لا يكاد يسمعها نبض قلبها الكبير, ولآلى تتساقط حباً و طرباً وحنيناً للعائد الحبيب، البعيد القريب , لقد عدتُ يا أماه  ...نعم لقد عدتْ، فهنا الحياة وهنا الوطن  و هنا أنا .. و هنا .. هنا أمي...