آخر تحديث :السبت-27 أبريل 2024-10:19ص

ملفات وتحقيقات


استطلاع: (عدن التي نغادرها ولا تغادرنا) ناسها يتحدون القهر.. وشبابها في انتظار بزوغ الفجر

الأحد - 11 نوفمبر 2012 - 02:56 م بتوقيت عدن

استطلاع: (عدن التي نغادرها ولا تغادرنا) ناسها يتحدون القهر.. وشبابها في انتظار بزوغ الفجر

القاهرة (عدن الغد) خاص:


كتب/ صالح الحميدي لـ(عدن الغد)

نعيش في مدن ونزور مدن كثيرة وتتكرر زياراتنا لها عشرات المرات ومع ذلك ما ان نغادرها حتى تختفي من مخيلتنا  فلا تترك فينا إي اثر أو ذكريات أو تفاصيل معينة يُمكن لها ان تحجز لنفسها حيزاً في أرشيف الذاكرة.

وعلى العكس منها مُدن أخرى تأبى ان تغادرنا حتى ولو غادرناها وبعدنا عنها، وفصلت بيننا الحواجز والحدود ومن خلفها البحار والمحيطات والخلجان كونها تبقى حاضرة في الروح والفكر والوجدان ..

وعدن واحدة من هذه المُدن هذا إذا لم تكن أميرة المُدن وتاج العواصم فهي المدينة التي تجعل من الدهشة عنواناً للإعجاب ومن الروعة متعة للتفكر والاستغراب ..تستوطنك من أول زيارة وتتوغل فيك الى أخر العمر، فما ان تحط قدميك على ذرات ترابها الناعم نعومة السجاد حتى تندفع الروائح الطيبة لاستقبالك يتقدمها الفل ومن حوله البخور والرياحين تعانق انفك وتعطر أنفاسك فلا تجد من مخرج إلا في ان تترك ابتسامتك تزهر وسط بستان الحب الذي يحيطك من كل الاتجاهات.. فإذا ما توغلت في المدينة اُغلقت في داخلك أبواب الغربة والتأمل وداعبك شعور لذيذ هو خليط من إحساسك بالمكان ويقينك ان هناك ارتباط روحي بينك وبين كل ما تشاهد ..

نداء خفي يؤكد انك كنت هنا قبل ان تكون هنا شوارعها تعانقك بحنان وجبالها تظلك باحترام رمالها تبتسم لك بمودة وبحرها يأخذك بالأحضان .

أما ناسها ورغم أحوالهم المعيشية التي لا تحتاج منك الى دليل يؤكد أنهم  تحت خط الإفقار بل وخطر الاحتضار إلا أنهم لا يتوانون عن منحك ابتسامة صافية كقلوبهم النقية ولا يتأخرون عن مساعدتك وقد اتخذوا من اللهجة العدنية المحببة التي تذوب في ثناياها قوالب الطيبة كقطعة سكر في كوب شاي (ملبٍن) وسيلة لتخاطب معك ( إي خدمات يا طيب ..رابح على فين يا عاقل ..تعال من هنا ياحبيب  ) تسحرك أخلاقهم وتتعجب من جلدهم وقوة عزيمتهم التي تقهر المعاناة وتقاوم الوجع،  فقد ترى هنا حالة القلق التي تفرضها تلك المدرعة الغاضبة بلا أسباب والمكشرة بلا أنياب وترى هناك طقم أهوج يتعقب الشيوخ والشباب وقناص محترف على العمارة يُنزل بالأبرياء العقاب ومع ذلك يستمرون في حراكهم السلمي ويمارسون حياتهم اليومية بشكل طبيعي طالما ولديهم قضية يؤمنون بها حد إيمانهم بالله عز وجل ..

وطبعا ستظل الصورة غير مكتملة الملامح متداخلة الألوان مالم يغلبك الحنين الى أسواق عدن ويدفعك الشوق الى حافاتها القديمة فهناك فقط ستجد المعاني الصادقة للأصالة التي تتخذ من التنوع في كل شيء عنوانا لها ..

 رجال يتسلون هنا وقد غيرت سنوات العمر خارطة ملامحهم ورسمت الشيخوخة تجاعيدها على أجسادهم ورغم ذلك عجزت عن تغيير نمط حياتهم وأسلوب معيشتهم ولهذا تجدهم يتمسكون بهويتهم ويحرصون على قديمهم المتميز والمتوارث.. وهناك آخرون يضحكون في وجه القهر الذي يقف لهم على رأس الشارع أو يراقبهم في مداخل البيوت .. يتحدثون بصوت مسموع ولذيذ عن المرارة التي أهداها لهم نظام صنعاء فيتخيل لك وكأنهم يمضغون قطع الحلوى لا أن يقولوا لك شكوى .. يتحسرون على  الماضي الجميل وهم يدفعونك ان تغني وتردد معهم أغنية (قل للزمان ارجع يازمان) ..

لن تشعر ان الوقت قد غافلك وسرق منك كم ساعة وعوضك عنها مودة وصفاء إلا حينما تنظرالى السماء وترى الشمس وقد مدت ساقيها في مياه البحر مداعبة الغروب وهنا تتذكر ان رصيد مشوارك في الحافات قارب على النفاذ وعليك ان تشحن رصيد أخر تبدأ معه مشوارك الجديد على ضوء القمر.. فالأسواق في عدن لا تطيب ولا تحلا إلا بعد ان يفرش القمر أشعة أنواره على سجادة  الليل السوداء فيحلى السمر وتخرج النساء وقد التحفن العبايات السوداء المزركشة واخفين وجوههن تحت براقع دخيلة هربا من الأفكار السوداء المستوردة التي استوطنت هذه المدينة وقد كانت الى زمن قريب تعيش أسرة واحدة حتى ظهرت تلك الأفكار الظلامية فسعت  الى هدم أركان المودة والألفة والإخاء فيها وتسللت الى كل بيت من بيوتها قبل ان تصدع بأفكارها الجاهلية السوداوية أركان المدينة ..وهنا قد لا تجد مفر من ان ترفع صوتك وأنت تصرخ (اللعنة على عقول حصرت الفضيلة والشرف في الجلباب والبرقع فاغتالت الجمال وفرضت على هؤلاء النسوة العودة الى عصور التخلف والرجعية) ..

وبالقدر الذي يؤلمك هذا المشهد إلا انك سريعا ماتجد وحي الإعجاب ينزل عليك وتبتهج من قدرة نساء هذه المدينة على منحك التفاؤل والأمل وهن يتجولنا بثقة وشموخ وقد فرضن بثقافتهن العالية احترامهن عليك وعلى كل من حولك ..يحفظن ثقافة وعادات وموروث هذه المدينة عن ظهر قلب ويحافظن على ماضيهن الذي يستمدين منه حاضرهن وكرامتهن وسمعتهن ومكانتهن كنساء ..ولا ينسن وهن في طريق العودة الى بيوتهن من المرور على محل بيع البخور أو الوقوف أمام بايع الفل لشراء ما تيسر من هذه الروائح لإيمانهن ان الطيب والروائح العطرة ركن من أركان الاستقرار والبهجة في البيت العدني الأصيل ..وطبعا سيكون هذا المشهد مسك ختام يومك الأول فلا يبقى منه غير جولة ليلية سريعة تنتهي بك أمام قلعة صيره الشامخة وقد غمرت مياه البحر نصفها الأسفل وبقى نصفها الأخر يحرس المدينة ويمنح الصيادين وأصحاب المطاعم المنتشرة في الجوار الأمن والأمان وعند هذه النقطة حتما ستدرك انك بحاجة الى وجبة سمك طازج مطبوخ على الطريقة العدنية التي ستظل مخزونة في أرشيف ذاكرتك  كلما عزمت على تناول وجبة سمك في إي مدنيه من المدن ..

لصباح في عدن لون أخر وطقوس معينة يداوم الناس على أدائها بأنتظام حيث يبدأ صباحهم عند اللحظات الأخيرة التي تُرفع فيها الستارة السوداء عن المدينة وترسل الشمس خيوطها الأولى فيقبل الكثير من الناس على شراء الصحف والجلوس على طاولات المقاهي الشعبية يتناولون الشاي العدني الشهير على أصوات الأغاني الصباحية المعتادة  (صباح الخير من بدري أمانة شلها يطير وصحي اللي نوى هجري وقله ياصباح الخير)..يطالعون الصحف بنهم يقرأون أخر المستجدات في الساحة المحلية ويتناقشون فيها بأسلوب حضاري وراقي جدا قبل ان يتفرقوا ويتوجهون الى مقار أعمالهم بكل همة ونشاط  ..فإذا عقدت العزم أنت الأخر على مواصلة رحلة الأمس  فتأكد ان مبتغاك في كليات الجامعة  فيمم وجهتك إليها وتوكل وهناك فقط ستلتقي شباب في عمر الربيع المزهر يأبون ان تُصادر أفكارهم أو تُغتال أحلامهم .

 

ما أن تجلس معهم حتى ينشرح صدرك وتلفحك زخات متفرقة من الأمل وأنت تستمع لهم بإمعان وكأنك بين أصدقاء طفولتك تتابعون حكايات ولا في الخيال يحدثونك عن نظام صنعاء كيف أمعن في نهب الموارد والثروات وكيف وأد الهوية وصادر الحريات وكيف كتم الأنفاس وخنق الأصوات كيف سعى لجعلهم أحياء في عالم الأموات، ويواصلون الحديث بالقول وحين أفقنا من حالة الموات التي كنا عليها وحاولنا ان نتنفس الحرية  ونرفع أصواتنا ونتمسك بهويتنا وبحقوقنا المسلوبة وأرضنا المنهوبة وثرواتنا المسروقة واجهنا نظام صنعاء بالمدرعات والمصفحات والأطقم ..فقتل وجرح شبابنا واعتقل وطارد قادتنا واراع اطفالنا وافزع نسائنا وفرض الحصار على بيوتنا ..ولكن هيهات ان يوقف حراكنا أو يقف في طريق عزمنا في استعادة دولتنا..


  حديثهم لايُمل والبقاء معهم متعة لا توازيها متعة، فرغم ان نظام صنعاء قد  حاول ان يحجب عنهم الشروق  وسعى الى اجبارهم على التعايش مع  العتمة بعد ان  قاعد آباءهم  واحرم شبابهم من الوظائف والتفكير بالمستقبل إلا ان كل هذه الاوضاع الصعبة لم تمنعهم من مجالسة الفرح  ولا أثناهم الخوف من ضياع المستقبل عن معاقرة الامل  بل مازالوا يجدون الوقت الكافي للتفاؤل وللقاء والجلوس والحديث عن حراكهم السلمي ومغامراتهم الفردية والجماعية وعن وذكرياتهم في المعتقلات والسجون يتذكرون مآثر زملائهم الشهداء وبطولات اخوانهم الجرحى ويتعهدون على الوفاء والسير في النضال حتى نيل الاستقلال ..

 

 

 تعود الى الشارع من جديد تسبقك ابتسامتك المزهرة وبداخلك راحة نفسيه ورضى  بانك قد اكتفيت بهذه الحصة المعرفية المكثفة من الشباب معتقدا ان الدرس قد انتهى دون ان تدرك ان هناك حصص ودروس  أخرى في انتظارك وعليك ان تحرص على اللحاق بها ..

وامامك الان مشهد أخر وعليك ان تتابع تفاصيله.. اطفال كالزهور يغادرون المدارس بملابسهم النظيفة المميزة راسمين لوحة زيتية رائعة تجعلك تظن  انك أمام بستان رباني متحرك ..وما ان يبتعدوا عن أبواب المدارس حتى تتغيير الصورة وتختلط فيها الألوان فيرتفع علم الجنوب وترتفع معه اصواتهم البريئة مرددة( ثوره ثوره يا جنوب) .

 

وطبعا أمام هذا المشهد المفاجئ يصعب عليك ان تقاوم فضولك الممزوج بالحيرة فتتوقف على غير رضاك وقد تسأل اقرب شخص يقف الى جوارك عن سر هذا المشهد فيرد عليك بأسهاب( الله لا سامح نظام صنعاء فهو السبب.. دمر كل شيء حتى ثار ضده الصغير قبل الكبير وما هؤلاء الاطفال الابرياء إلا خير دليل فهم قد يتقاعسون عن اداء الوجبات المدرسية في المنزل وقد ينسون ان يحفظوا انشودة الصباح لكنهم لا يتأخرون عن المشاركة في الفعاليات الحراكية ولا ينسون شعار ثوره ثوره يا جنوب وكل اغاني عبود ..يمين الله ما بركع ) ..اجابة لا تحتاج الى إي اسئلة توضيحة أو إي تعليق فهي واضحة وضوح الشمس في كبد السماء وما عليك الان إلا ان تنتقل في اسرع وقت الى مكان أخر حتى تلحق الحصص الاخرى .. وتعرف كيف كانت عدن قبلة الاديان ومحراب كل الاجناس .. وكيف كانوا يتهجدوا فيها صلاة الحرية.. وسنن العدل والأمان .

كيف كانوا يتلون آيات الحب المبين ويحمدون المولى عز وجل فاطر السموات والارض على تلك النعم .. عليك ان تزور المساجد والكنائس والمعابد حتى تدرك عظمة هذه المدينة ادخل التواهي وأسأل عن فندق كرسنت وعن الجناح الذي قضت الملكة الزبيث الأولى ايام شهر العسل فيه توقف أمام تمثال الملكة فكتوريا الجاثم في الحديقة وارفع نظرك الى ساعة بج بن على الجبل وهي تضبط الوقت وتراقب المدينة.. ادخل من بوابة عدن الشهيرة ودع دهشتك تتخطى حدود جبينك واحمل اعجابك في حقيبة استغرابك  واتركه ينفجر بك دفعة واحدة على أبواب معجزة تلك الصهاريج الاعجوبة ولاتنسى ان ترفع يدك ملوحا بالسلام حينما تلوح لك قلعة صيرة أو تمرعلى  منارة عدن ومسجد ابان.. ارفع قبعتك وحيي رامبو وانحني احتراما لجبل شمسان .

 

واخيرا كن على يقين بأن زيارتك ستنتهي وأنت لم ترتوي بعد.. فمازالت استمارة  الاسئله لديك فارغة عن الكثير من الاجابات كونك لم تتمكن من معرفة شيء عن قادتها ومفكريها  من  قحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف وعبدالله باذيب والقائمه تطول ولا عرفت عن ادبائها وفنانيها من لطفي امان الى حنبله وجراده والقرشي وخليل والصنعاني والماس والزيدي واحمد قاسم ومحمد سعد وصولا الى المرشدي .

لكنك رغم كل هذا لن تجد مفر من رفع صوتك حتى يتردد صداه في كل ارجاء المدينة .. وأنت تقول (ما اجملك ايتها الجنة الساحرة عدن.. ما اروعك وقد ابدع الخالق في رسمك ..ما اصلبك وأنت شامخة و تنظرين الى الامام دون ان تعطي ادنا اهتمام لذلك القبح (الميري) الذي حاول نظام صنعاء تصديره وفرضه عليك ) 

وها هو صوت المذيع الداخلي في المطار يؤذي متعتك السمعية ويذكرك ان الستار سيُرفع الان (النداء الأخير للركاب المغادرين على متن الطائره ايرباص 330 المتجه الى القاهرة) فتدرك بأنه قد حان موعد الوداع فتغادر عدن وأنت عاجز عن مغادرتها بل قد تجزم وأنت تحط رحالك في مطار القاهرة انك لم تزال هناك ولم تغادرها بعد لأنها اصلا  قد سكنتك وستظل فيك حتى تعود إليها من جديد ..  

*خاص لـعدن الغد