آخر تحديث :الأربعاء-08 مايو 2024-07:15م

أدب وثقافة


دبابتان في لسان المطار (من أدب المقاومة)

الثلاثاء - 19 يناير 2016 - 06:37 م بتوقيت عدن

دبابتان في لسان المطار (من أدب المقاومة)

عدن(عدن الغد)خاص:

عوض القيسي

في أواخر شهر أبريل استطاع المقاومون في المنصورة  دفع الحوافش من موقعهم في الطريق البحري قرب المنصورة إلى ما وراء الجسر, ثم تقدموا ورابطوا على السور الأول لمطار عدن. وكان يفصله عن السور الثاني سبخة تغمرها مياه ملحية ضحلة عند ارتفاع المد. وقد اشتهرت باسم بحيرة البجع. كان الحوافش يكمنون خلف السور الثاني الذي يتقاطع مع السور الأول ثم يمتد من جهة الشمال طوليا حتى يصل إلى مدرج المطار. هناك يتحول من سور إلى سياج من الشبك والاسلاك الشائكة في أعلاه, ويمتد بحذاء نهاية المدرج على الجهة الجنوبية من السور الأول. هناك تكون المسافة قد بلغت أقصاها بين السورين, وجاوزت الكيلومتر بقليل. هناك يلتقي السور الثاني بالطريق البحري عند ما يسمى بلسان المطار. لسان المطار بقعة مردومة من البحر تمتد خارجة من نهاية المدرج الغربية ويقطعها الطريق البحري, وعليها تنتصب مصابيح لإرشاد الطائرات لمدرج الهبوط. في  زاوية التقاء لسان المطار بالطريق البحري كانت تكمن دبابتان للحوافش. واحدة كانت على الطريق الرئيس والثانية كانت في المنخفض الواقع تحت دكة الطريق في الزاوية تماما. لذلك كان رميهما فعالا في منع أي تقدم لأفراد المقاومة, وفي منع أي مركبات لديهم تهم بالتقدم. وكان يؤازر الدبابتين من الخلف مدفع آلي (23 مم) رابض بين المباني الواقعة في شمال جزيرة العمال. كانت نيرانه فعالة في حصد أي تقدم للمقاومين. وكان أي تقدم لتحرير المطار دون القضاء على الدبابتين والمدفع الآلي أولاً يعد انتحاراً جماعيا للمقاومين.  لقد استحال على المقاومين أن يصطادوا الدبابتين, فأما الدبابة التي كانت على الطريق تحتمي خلف ساتر ترابي يمنع المشاة من اصطيادها بقذائف الآر بي جي أو الـ (ب 10), وأما الدبابة التي كانت تربض على مقربة منها أدنى دكة الطريق فقد ساعدها موقعها المنخفض في الاستتار والمنعة, فضلا عن ذلك ساعدها موقعها في مؤازرة الدبابة الأولى على أي مجاميع زاحفة, فكانت تباغتهم بنيرانها من حيث لم يُقدّروا.

 كان جلال القاضي ضابط مدفعية متمرس. وكان تلك الأيام في صفوف المقاومة ضمن المجلس العسكري لمدينة البريقا. ومن البريقا كان يدير ومجموعته عدداً من قطع المدفعية وثلاث راجمات صاروخية "ب م 21". كان ومجموعته طيلة أيام الحرب في عدن تحت طلب المقاومة. في إحدى الليالي الأخيرة من شهر إبريل جاءه محمد الحميس مع بعض المقاتلين من المقاومة في تلك الجبهة إلى مقرالمجلس العسكري في البريقا. كان يعرف محمد الحميس فهو من قريته, وكان مساعدا في الجيش ومتخصصاً في الدروع, وكان يقود إحدى الدبابتين المتوفرتين للمقاومة في جبهة الطريق البحري. بعد السلام قال له :

-       والله الليلة جئناك لأمر مهم جدا ! أنت تعرف أن أي محاولة لتحرير المطار يجب قبلها أن نسيطر على لسان المطار ونسكت المدفع (23) لكن المشكلة أن لدينا دبابتين معاديتين عند لسان المطار , وهما تمنعان أي تقدم لمجاميع المقاومة نحو المطار أو جزيرة العمال. وقد جئناك بعد أن عجزنا لتضربهما "بالكاتوشا".

-    ما حاولتم تصطادوهن بالآر بي جي ؟

-        حاولنا, لكن قتل العديد منا في محاولات فاشلة للتقدم. المشكلة أن المشاة لا يقدرون أن يتقدموا لاصطيادهما لأنهم عندما يتقدمون يصيرون هدفا واضحا للمدفع 23 الرابض في جزيرة العمال. وإن تقدمت أنا بدبابتي لاصطياد المدفع 23 فحالما اقترب سأكون مكشوفا للدبابتين وسيتمكنان من اصطيادي بسهولة كما تنقف الديمن بالجرعة والسنارة.

ضحكوا لهذا التشبيه الطريف ثم واصل محمد كلامه :

-     مثلما قلت لك ستتمكن الدبابتان من صيدنا بسهولة بينما هما مستترتان ولا يظهر منهما الا المدفعان. لذلك جئناك ونعلم أنك لن تخيب طلبنا, ونريدك الليلة أن تأتي أو ترسل معنا عناصر الاستطلاع وتضربوهن الليلة. مجموعتنا الليلة مستعدة للزحف والاستيلاء على المطار وأنا أنوي أن أتقدم على الطريق الجديد وأدمر المدفع (23).

-    خيرا إن شاء الله ! سأفعل كل ما بوسعي لتدمير هاتين الدبابتين. لكني الليلة وكامل مجموعتي في أشد الإرهاق والتعب. سهرنا لليلتين تباعا إلى الصبح, ظللنا في قصف متواصل على أهداف عدة, في رأس عمران وفي المدينة الخضراء وخلف الممدارة ودار سعد وفي جبهة جعولة وخلف بير أحمد. وكنا ننام وقتا قصيرا في النهار ثم نستأنف القصف على الحوافش. والليلة بلغ التعب بنا مبلغا لم نعد معه نستطيع أن نعمل. الليلة سنرتاح وإن شاء الله سآتي معكم في الغد لأستطلع الهدف بنفسي. لكن هل أنتم منسقون مع باقي المجاميع ؟

-    أخبرناهم لكنهم تفاوتوا في الاستجابة فمنهم من تحمس للأمر ومنهم من أبدى فتورا. لكن - إن شاء الله – سيتحمس الباقون للهجوم عند تدمير الدبابتين والـ (23).

انتقل جلال في الليلة الثانية مع طاقمه للاستطلاع في السادسة والنصف مساء إلى خلف جسر المنصورة مشيا, ووصلوا إلى المنعطف الذي يسبق السور الأول للمطار. هناك كان ساتر ترابي للمقاومة. كان الوقت صيفا, والضياء لا يزال باقيا, وكان مدى الرؤية جيداً ويسمح بالتدوين على الأهداف. أنزل جلال الناظم الذي كان يحمله, ونصبه على القائم الثلاثي, و حدد إحداثيات الهدف, وحضر المعلومات الأولية وأرسلها إلى المربض الناري عبر الهاتف الجوال. الحق يقال أن الاتصال عبر الجوال كان سلاح ذو حدين. به كان الحوافش يتجسسون على قادة المقاومة, لكنه كان وسيلة الاتصال الوحيدة المتوفرة لدى المقاومة. ولولاه لكانوا عاجزين عن تنفيذ كثير من المهام. لكن الحمد لله الذي أعمى الحوافش وجعلهم عاجزين عن قطعه بعد اعتمادهم عليه مثل المقاومة.

عادة ما يرسل المدفعيون مجموعة استطلاع إلى قرب الأهداف لتحديدها وتوجيه النيران صوبها, ويقومون بعد التحضير الأولي للمعلومات بالرمي بقذيفة واحدة فإما أن تقع على الهدف أو تنحرف عنه يمنة أو يسرة أو تفوته أو تقصر عنه, وهنا يصححون الرمي حتى تقع القذيفة في مجال الرمي المؤثر, بعدها يصبون كل القذائف المرصودة على الهدف حتى يدمروه. وغالبا لا يتعدى تصحيح الرمي ثلاث قذائف.

أعطيت الأمر لطاقم العربة عبر الهاتف بأن يرموا فرموا بالصاروخ الأول, فانحرف عن لسان المطار بعيدا نحو جزيرة العمال. فصححت لهم المعلومات وأعادوا الرمي. ياللهول ! رأيت  الصاروخ وهو آتٍ فادركت أنني أخطأت في الحساب وأعطيت الرامي زاوية انحراف أكبر من اللازم والصاروخ لا محالة سيتجه إلينا. صرخت فيهم :

انبطــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاح !

وانبطحنا كلنا. كنت أنا أول المنبطحين. وقع الصاروخ على مقربة منا, وكدنا نقتل أنفسنا برمينا.

 كان في المتاريس مجموعة من شباب المقاومة الذين لم تكن لديهم خبرة سابقة في الحروب فوقع في أنفسهم الروع. بعد الانفجار قام رجل من متراس آخر قريب من المتراس الذي كان فيه استطلاع المدفعية, وقد بدا شاربا, فأخذ يعربد ويصيح:

-         خيانة ! خيانة ! أنا .... أمك يا صاحب المدفعية ! أنا ..... عارك ! أيش تريد أن تقتلنا ! كأنك مع الحوثة !

كان معنا في المتراس عدد من الشباب السلفيين استفزهم سباب الرجل وسكره فقاموا ليضربوه. كان ذهني مشغولاً بتدمير الدبابتين, وما كان الوقت مناسباً لأرد على شتيمة هذا الرجل. الحوثيون يكمنون لنا بسلاح فتاك على بعد كيلومتر ويزيد قليلاً, وقد تغريهم أصواتنا المتناهية إليهم في السكون المخيم بعد الرمي, ليردوا على تحيتنا بأحسن منها. فتحلمت لذلك وكتمت غيضي وقمت إلى الشباب السلفيين لأمنعهم من الرجل, فقالوا لي :

-         دعنا نربيه, فأهله لم يربوه !

-         لا, أرجوكم لا تتشاجروا معه, الوقت ليس وقت شجار !

-         أما تسمعه ما يقول ؟!

-         بلى سمعته, لا عليكم منه, هو سب أمي أنا ولم يسبكم أنتم وأنا سامحته, دعوه وشأنه.

استجاب الشباب لرجائي وراحوا بعيدا عن الرجل الشارب, بينما أخذه أحد الذين كانوا برفقته في المتراس وراح يهدئه. أعدت تصحيح المعلومات وإرسالها. ورموا بصاروخ ثالث فوقع بالقرب من الدبابتين فعلمت أننا دخلنا في مجال الرمي المؤثر, فأمرتهم بإطلاق 17 صاروخا رشقة واحدة.

أعرف من خبرتي العسكرية أن الدبابة حين تتمركز في مواقع ثابتة يتمركز معها على أجنابها عدد من المشاة لحمايتها, وكنت أريد ان أستغل النيران أقصى استغلال في تدمير دبابتي العدو وما حولهما من المشاة الحامين لهما. لذلك أعطيت الأمر برمي 17 صاروخا رشقة واحدة, حتى لا تترك المجال للمشاة لينسحبوا. فوقعت الصواريخ كلها متتابعة في حدود الدقيقة أو يزيد قليلا ورأينا شواظا نارية تتصاعد من الدبابتين إلى السماء. فهلل المقاومون وكبروا, وكان من بينهم ذلك الرجل الشارب الذي أخذ يقفز من الفرح, وأخذ يكبر. وجاء إلي معتذرا عن شتيمته وقبل رأسي.

في هذه الأثناء  كان محمد الحميس على ظهر دبابته يتهيأ للانطلاق بها لوحده. لم يكن عليها أحد غيره. فقد كانت المقاومة تفتقر للمتخصصين في الدروع بين منتسبيها من الشباب الذين لم يخدم أغلبهم في الجيش من قبل. كان عليه أن يقوم بمهمة ينوء بها أربعة من الرجال هم قائد الدبابة والرامي والمُذخّر والسائق. حالما تحقق من تدمير الدبابتين وما حولهما انطلق محمد الحميس بدبابته على الطريق الجديد الذي ما يزال قيد الإنشاء.  كان يمشي بطمأنينة يَصدُق معها القول إنه كان "واثق الخطوة يمشي ملكا". لم يعد يخشى أن تدمر دبابته بعد أن دُمًرت مجموعة العدو على لسان المطار. فأما المدفع م ط (23) القابع في جزيرة العمال فلا تؤثر طلقاته في الدبابة, وأما قذائف الآر بي جي والـ (ب 10) فقد إمن مكرها لعلمه أن طواقمها على الجزيرة تبعد عنه كيلومترين ويزيد قليلا, وعند هذا المدى يستطيع أن يسوطهم بنيرانه بينما هم لا يطالونه.  لكن كان في النفس شيء من القدرة على تدمير الهدف التالي لوحده وفي وقت لا يتعدى عشر دقائق.

لقد كانت المجموعة التي فيها الحميس تخطط للهجوم واكتساح المطار وجزيرة العمال بعد الهجوم الصاروخي, وكان الحميس سيذهب برفقة عدد من المشاة نحو جزيرة العمال. لكنهم اليوم قد أخفقوا في لم شتات المجموعات والخروج برأي موحد في الهجوم, لأن جبهة المطار كانت لا تحظى بقيادة موحدة, وكل مجموعة كانت تنفرد بقراراتها. فكانت المجاميع تأتي وترابط وتنسحب دون تنسيق مع غيرها, بل كان الأمر أشبه بالذهاب إلى رحلة صيد بحري ليوم أو بضع يوم. لذلك عدل الحميس ومجموعته الخطة بعد أن جاءهم جلال القاضي إلى تدمير الدبابتين والمدفع م ط. وحين بدأ الحميس بتقدمه نحو هدفه كان كل ما يخشاه أن يتأخر في أداء مهمته فبعطي فرصة للمشاة القابعين في جزيرة العمال ليزحفوا الى مقربة منه فيصيبونه ودبابته.

حين وصل الحميس إلى مقربة من لسان المطار توقف وكان يعرف موقع هدفه جيدا, إنه ذلك المدفع م ط 23 الذي رآه مرات عدة يلعلع ويحصد رفاقه المتقدمين بينما هو عاجز عن الاقتراب بدبابته لرميه. أوقف الدبابة ثم سريعا قفز إلى موقع المذخر وعبأ المدفع بطلقة (ش ف), وقفز سريعا إلى كرسي الرامي وسدد على الهدف وأطلق قذيفته, وقفز ثانية إلى موقع الرامي وأعاد التذخير والرمي, وشاهد خلال رميه عش المدفع وما حوله يتطاير شظايا. ولم يلبث مليا حتى عاد إلى كرسي السائق. ثم انسحب سالماً إلى موقع انطلاقه.

تلك الليلة كان الطريق سالكا إلى المطار وإلى جزيرة العمال. لكن شتات مجاميع المقاومة وافتقارها لوحدة القيادة والكلمة أضاعت عليهم فرصة مبكرة لتحرير مطار عدن وخورمكسر, وتطلب الأمر منهم بعد ذلك شهرين ونصف من المعاناة لهم وللمدنيين ليحرروا المطار الذي كان تحريره فاتحة لتحرير باقي الأحياء الجنوبية لمدينة عدن من الحوافش, كما كان سقوطه بيدهم فاتحة لسقوط هذه الأحياء.

 

عدن 12/1/2016م