آخر تحديث :الإثنين-27 مايو 2024-06:39م

ملفات وتحقيقات


ذكريات عدنية : رمضان بلا ملامح في عدن وعيون حائرة تترقب موعد العودة إلى الديار المحطمة

الثلاثاء - 16 يونيو 2015 - 03:15 م بتوقيت عدن

ذكريات عدنية : رمضان بلا ملامح في عدن وعيون حائرة تترقب موعد العودة إلى الديار المحطمة

عدن ((عدن الغد)) خاص:

 

يقضي محمد عبدالسلام علي وهو معلم بمدرسة حكومية من مديرية التواهي بعدن ساعات طويلة عصر كل يوم وهو يجلس أعلى كتلة ضخمة من الأتربة المتكومة بأطراف مدينة  إنما السكنية برفقة عدد من أطفاله يراقب مدينة التواهي .

هنالك خلف مياه زرقاء حيث تبدو معالم المدينة واضحة ومعها تبدو ملامح مموهة لمنزله الصغير بتلة جبلية أعلى حي " حجيف" .

يطيل " عبدالسلام" النظر إلى موقع منزله الذي غادره ويتذكر ذكرياته قبل عقود من اليوم وهو طفل في حيهم العتيق .

يتذكر "عبدالسلام" جولته القصيرة  قبل سنوات عصر كل يوم في التواهي ورأس مربط والساحل الذهبي ومناطق الاصطياد القريبة من البحرية ومطاردة الضابط العسكري لهم كل مرة ومنعهم من ممارسة الاصطياد في هذه المناطق.

غادر "عبدالسلام" في الـ  منزله بحي التواهي عقب دخول قوات موالية للحوثيين وصالح إلى التواهي على متن مركب بحري صغير .

لم يحمل الرجل الكثير من مقتنيات منزله وكل ماحمله هو بضع قطع ثياب قليلة وأشياء بسيطة ، كل شيء تركه خلفه على أمل العودة القريبة .

بات "عبدالسلام" وأسرته المكونة من بنتين وولد وزوجته نازحين بمنزل احد أقاربه بمدينة إنما

يقول "عبدالسلام" لـ"عدن الغد" انه باع منذ ان غادر إلى هنا كل ماتملكه زوجته من مقتنيات ذهبية ولم يتبقى له شيء اليوم .

يقضي "عبدالسلام" غالبية يومه قاطعا شوارع المدينة الصغيرة ذهابا وإيابا والجلوس أسفل مساكن أخرى والادعاء بأنه يذهب إلى أصدقائه لقضاء أمور أخرى .

ضيق المنزل الصغير لايمنح الرجل أي فرصة للجلوس بداخله لذا فانه يضطر إلى قضاء غالبية الوقت خارجه .

بحزن بالغ ينظر الرجل عصر كل يوم صوب منزله "الغائب الحاضر" ذكريات الطفولة أوجاع الزمن الحاضر .

الأمنية الكبيرة التي يقول "عبدالسلام" انه يتمنى ان تتحقق هي ان يعود إلى منزله حتى وان تسبب ذلك بوفاته .. المهم ان "يعود".

يضيف بالقول :" اقسم إننا تعبنا فوق مايتخيله أي عقل ومنطق محاصرون من كل شيء هناك قصف وجوع وألم .

رمضان... الم الذكريات .

يتذكر "عبدالسلام" ذكريات قديمة من رمضان كل عام في عدن وبحزن شديد يؤكد ان كل شيء مما سبق لن يحدث هذا العام .

هذا العام دون كل عام سيبكي الآلاف من أهالي مدينة عدن حال مدينتهم مع اطلاقة التكبير الأول لإفطار أول يوم .

عشرات الآلاف من الناس التي غادرت مساكنها ستقضي رمضان وأيامه الجميلة بمنازل أخرى ليست منازلها وفي ظروف صعبة  للغاية قد يجد البعض مايفطر عليه وقد لايجد كثيرون ذلك .

في كل عام وقبل أسابيع من أول أيام رمضان تزدحم الأسواق بالآلاف من الناس الذين يتسابقون لشراء متطلبات هذا الشهر العتيق .

هذا العام فقط لاتزال المحال مغلقة والشوارع يطاردها الصمت والرياح والألم وتدوي أصوات القصف من كل جانب .

لرمضان في عدن ذكريات خاصة ومذاق خاص ، لايعرفه إلا أبنائها وأهلها رمضان في عدن ليس موسما للبذخ لكنه موسم لفرح لن يأتي هذا العام ولن يحل .

 

محمد العلواني رجل في العقد الخامس من عمره عمل طوال 20 عام مضت كان سائقا لحافلة ركاب متهالكة طاف فيها جميع شوارع مدينة عدن ونقل على متن هذه الحافلة مئات الآلاف من الناس طل سنوات من الارتحال في شوارع المدينة وأزقتها .

بعيون باكية التقته "عدن الغد" بمقهى شعبي صغير بالشيخ عثمان بعد 20 عام من الخدمة بات الرجل "نازحا" في الشيخ عثمان .

غادر الرجل منزله بخور مكسر لكنه لم يتمكن من جر حافلته الصغيرة معه بعد ان أصيبت بقصف للقوات الموالية للحوثيين .

فر الرجل مع أسرته صوب الشيخ عثمان حيث بات نازحا ، كل ماتبقى للرجل من حافلته وتاريخها العريق ميدالية  نحاسية صغيرة يتدلى في أسفلها مفتاح الحافلة العتيقة .

ينكس الرجل رأسه إلى الأسفل ويتحدث متذكرا "رمضان في عدن " حينما يؤذن المغرب ويسارع للإفطار والذهاب إلى المسجد والمغادرة لاحقا من منزله ليطوف شوارع خور مكسر .

لحظتها تبدو الشوارع طرية خالية من المارة يأتي نسيم "ساحل أبين " منعشا ويمضي الرجل في طريقه باحثا عن الركاب هنا وهناك ..

ومع حلول صلاة العشاء يوقف الرجل سيارته كل مساء بالقرب من مسجد العيدروس الشهير بالمدينة القديمة "كريتر" ليصلي  .

يعشق العلواني "ذكر النبي" في هذا المسجد العتيق وصلاة التراويح في رحاب ذكريات دينية عتيقة .

يتذكر الرجل بحسرة صلاة التراويح في مسجد "العيدروس" والابتهالات الدينية .. بألم شديد يقول :" من سيشعل الشموع هذا العام في مسجد العيدروس  ومن سيوزع الحلوى للفقراء ومن ومن ومن؟ .

هذا العام ستخبو الأصوات في العيدروس ومعها سيخبو كل شيء لا أضواء ولا أدعية ولا صلوات ولا فرح .

يحفظ "العلواني عن ظهر قلب ذكريات أهالي عدن .. لـ 20 سنة مضت سمع الرجل مئات الآلاف من الأحاديث على ظهر حافلته الصغيرة .. الكثير من الفرح الكثير من الحب الكثير من المعاناة والكثير من الامل.

يقول العلواني" انه سيفتقد هذا العام التوقف أمام عدن مول مثلما كان يفعل طول سنوات مضت .

هنالك حيث ينتظر مراهقي عدن وشبابها وذكريات سير الحافلة وحديث شاب مراهق لصديقه انه تمكن من ان ينال أخر قطعة ثياب في المتجر الفلاني بالمول ولو انه تأخر بضع دقائق  لكان اشتراها أخر .

حديث رجل لزوجته عبر الهاتف بأنه أخيرا وجد مقاسها . وانه اشترى كل الأشياء للأولاد مثلما طلبت من "عدن مول" لكن الزوج في الحقيقة كان يكذب لقد اشترى كل شيء من "السيلة"

وتمضي حافلة "العلواني " في ذكرياته مارة بشوارع خور مكسر وتنعطف قليلا أمام فندق عدن وتمضي لتغيب في زحام الخط البحري .

ومع حلول ساعات الفجر يعود الرجل إلى خور مكسر ليلتقط بضع لقيمات هي سحوره الأخير ..

 

وفي كريتر قصة أخرى

هذا العام ومنذ ان عرفت كريتر نفسها لن تتزين المدينة العتيقة لاستقبال محبيها من المديريات الأخرى ولن يسود الزحام سوق الطويلة ولا شارع الذهب  ولن يقود العلواني" حافلته إلى هنا ولن يصلي في العيدروس ولن تسمع قعقعة أكواب مقهى السكران .

ولن يمضي الأطفال ذهابا وإيابا في حافة القاضي وهم يرددون "مرحب مرحب يارمضان".

شيء من هذا لن يحدث ..

يشبه المشهد في كريتر أول أيام هذا رمضان مشهد سفينة التياتنك الغارقة في فيلم المخرج"جيمس كاميرون" حينما تهب الحياة إليها ومن ثم تغيب .

ستفتقد "كريتر" شوارعها وأزقتها صرخات أطفالها وصيحات شبابها قبل مغرب أول يوم للإفطار وهم يلعبون كرة القدم في ملعب "حقات" والملعب البلدي وملاعب أخرى كثيرة .

لن يكون هنالك شباب هذا العام يركلون أي شيء ليس ثمة أكثر من رياح حارة ستطارد الأكياس الفارغة في الشوارع التي أجبرت قسرا على فراق محبيها .

سيفتقد سوق الطويلة لزحامه الجميل وستنضب حنفيات بائعي الليم البارد في الأركان، لن يكون هنالك من احد في كل هذه الأماكن ستبكي "كريتر " محبيها هذا العام وستنتظرهم العام القادم على أمل عودة قد لاتحدث  .

لكريتر في قلب كل "عدني" عشق لايوصف أنها الام لكل شيء .. هناك في كريتر يقصد الجميع كل شيء ويذهبون لشراء كل شيء ولا تقنع عين "العدني" إلا بشراء شيء أنيق ولطيف وموثوق إلا من كريتر .

هذا العام ستخلو كراسي مقهى "السكران" الشهير ولن تكون هنالك حكاية يحكيها العم "عبده" الذي ظل لسنوات كثيرة يحكي لشباب يأتي وشباب يذهب قصته مع الانجليز والثورة وحرب صيف 1994 وكيف قتل الرفاق "سالمين" ربما هو في مكان ما اليوم يكتب قصة الغزاة الجدد على أمل ان يحكيها لمن سيتبقى من الناس في زمن قادم.

غادر العم "عبده" وغادر رفاقه وافتقدت الكراسي العتيقة بمقهى السكران لمحبيها وعشاقها وخفتت  الأضواء هنا وساد الصمت .

في كريتر وحدها يتعاظم "الوجع" العدني حينما تلاحقه كل الذكريات "السمبوسة والباجية" واطباق الشربة وهي تغادر من منزل إلى أخر .

ويـأتي صوت الأم العدنية بحرارة وهي تحث ابنها الصغير ان كل ماتبقى من واجبه هو "صحن شفوت" يجب ان يصل إلى أم محمود في الشارع الأخر  وعليه ان ينجز .

 

معلا تواهي .. وجع الوجع

للمعلا وشارعها الانيق في ذكريات رمضان عدن وقع أخر لايضاهيه أي شيء .. لسنوات طويلة ظلت أضواء شارع مدرم بالمعلا "تتلئلاء"  ومع حلول أول يوم افطار تتسارع حركة السير بهذا الشارع العتيق.

وتبدو عمائر المعلا على جانبي الخط وهي اشبه بخلية نحل يتبادل الناس ماتيسر من افطار بين كل بيت وأخر .

المعلاوي في الذاكرة العدنية هو رمز "الجمال" والحب والاناقة ولرمضان في رحاب المعلا جمال أخر.

رمضان جميل في المعلا بجمال اهلها واناقتهم وحياتهم المرتبة والبسيطة .

هذا العام ستخفت أضواء الشارع الرئيسي وسيلف الصمت كل اركانه ولن يطوفه إلا كلاب بشرية وأخرى حيوانية تتأمل جميعها حجم الدمار الذي خلفته "كلاب البشر" واسفت له كلاب "الحيوان".

لن يكون هناك في المعلا هذا العام حافلات صغيرة تقطع الطريق في طريقها إلى خور مكسر أو كريتر أو الشيخ عثمان .

في التواهي سيفتقد الناس اشياء كثيرة .

هناك في التواهي .. عالم عدني أخر من الجمال لن يرى النور هذا العام ، هناك مع حلول عصر كل يوم من رمضان بالقرب من حديقة الملكة فيكتوريا حيث يتزاحم المئات من الناس على عجل .

سيارات القادمين من " الفتح " وجولد مور وهي تخلي ركابها عقب صلاة العصر ليسارعون إلى وسط السوق .

يغادر العدني البسيط  محاولا انجاز كل شيء .. ساكن بروسلي يسير على الاقدام عقب شراء احتياجاته ثمن الأجرة قد ينفع لشيء ما أخر .

هناك مع نسائم العصر الجميلة يمتع المئات من الناس من ساكني جبل هيل وبروسلي والفتح انظارهم بمنظر السفن المبحرة إلى ميناء عدن بهدوء بالغ .

تتسارع الخطى وسط سوق "عامر"  العامر بكل شيء وتتعالى الأصوات "انجز ياخي قليل وبيأذن".

على رمال جولد مور وبالقرب من خليج الفيل يفترش العشرات من الناس رمال الساحل "المبهر" صلاة وفطور واجواء لا تتكر في مكان أخر .

مادة خاصة بعدن الغد

سيحل الظلام هذا العام في "التواهي" وسينتظر من تبقى من ساكنيها شربة ماء باردة وضوء شمعة خافت يصارع الظلام .

هذا العام لن تعانق "التواهي" ولا بحرها سفن قادمة من المحيط ولا شيء سوى الصمت سيسود المكان .

ليس ثمة حافلة ستنطلق من وسط التواهي صوب "كريتر عدن" لن تسمع الارجاء الصوت الذي احبته لسنوات طويلة .. عدن ياحجة الخور يابنات .. لا شيء من هذا البتة .

على طول الطريق الرابطة بين التواهي والمعلا "الجميلة" سيحل وجع بامتداد "الوطن".

للخور الم المحبين

لخور مكسر في الذاكرة "العدنية" حضورها المتفرد بوصفها المدينة التي تتوسط كل شيء ، هناك في خور مكسر تقترن اشياء كثيرة ببعضها .

سيغيب كل شيء في خور مكسر هذا العام .

لسنوات طويلة ظلت جولة البجع وساحل أبين مكانا يتجمع فيه المئات من الأشخاص عصر ومساء كل يوم .

هذا العام سينادي "ساحل أبين" محبيه وعشاقه وأهالي خور مكسر  لكن أمواجه ستردد الصوت " كل من نحبهم غادرنا" .

ستغني امواج "ساحل أبين" انشودة الغائبين " ولن تسمع على أطراف الساحل اغاني "احمد قاسم" ولكن كل ما سيسمع هذا العام هو صوت "الفراغ".

هذا العام ستسأل رمال ساحل أبين لماذا غابت اقدام المئات الشباب التي اعتادت الدوس هناك في مباريات كرة القدم عقب صلاة كل عصر يوم .

سيلامس البحر رماله وحيدا بعد ان غاب كل شي .

ستفتقد "ساحة العروض" للاطفال الذين افترشوها لسنوات طويلة وتلاعبوا وسطها واطرافها وستسأل اين انتم ؟ ولكن الاجابة لن تأتي .

بجراحه سيطل "فندق عدن" وهو الرمز الذي ارتبط بالوجع في الجنوب متأملا خور مكسر وهي اشبه بجسد فتاه جميلة لكنها مثخنة بالجراح .. "فندق عدن" هو الأخر يحمل الكثير من الجراح .

بالقرب من جولة البحر لن يتوقف هذا العام احد لكي يشير بيده للحافلات التي تتسابق على كل شيء لكي يسألها عن وجهتها "العريش أم الجسر"؟.

 

كتبه " فتحي بن لزرق "