آخر تحديث :الأربعاء-24 أبريل 2024-06:59ص

أدب وثقافة


الطبيعة الإنسانيّة 2.0

الثلاثاء - 26 مايو 2015 - 06:05 م بتوقيت عدن

الطبيعة الإنسانيّة 2.0
الطبيعة الإنسانيّة 2.0

لندن((عدن الغد)) العربي الجديد:

 

حبيب سروري

 

كشفَتْ الملاحم والأساطير، كالإلياذة والأوديسة وجلجامش ومهابهاراتا، قبل آلاف السنين، خارطةَ الطبيعةِ الإنسانية أيّما كشف. هذه الطبيعةُ التي تشكّلت خلال ملايين السنين من التطوّر الدارويني، لِنرِثَها أباً عن جد، قد لا تتغيّر ربّما إلا بعد مئات آلاف السنين، مع الانتقال إلى سلالات بيولوجية جديدة تواصلُ مسيرةَ تطوّرِ وارتقاءِ الـ هوموسابيانس.بانتظار ذلك، يظلُّ "ابن آدم زي الإنسان"، حسب مثلٍ شعبيٍّ يمنيٍّ ممتع. وتظلُّ عِبَر الأساطير الأولى تُلخِّصنا أفضل تلخيص. وتفتنني قصةُ تفاحة آلهة الشجار والفتنة؛ إيريس.

 

دعا كبير آلهة الإغريق، زوس، جميعَ الآلهة، إلا آلهة الشجار إيريس التي تعمَّدَ تناسيها، لحفل زواجٍ استثنائي في الأولمب. فانتقمت إيريس، بتسريب تفاحةٍ ذهبية للحفل، كُتب عليها "مهداة لأجمل النساء". تفجّر الخلاف بين المدعوات لاختيار أجملهنّ، وانحصر التنافس في النهاية بين مرشّحاتٍ ثلاث: "هيرا"، زوجة زوس، و"أثينا" ابنته المفضّلة، و"أفروديت" خالته. تعذّر على زوس اختيارُ الأجمل من بين أعزِّ ذويه، وشعر بالضياع، فطلب من الإله هيرمس الذهاب إلى جبل إيدا، بصحبة الآلهات الثلاث، وترك اختيار أجملهنّ لمزاج راعٍ يصادفه في ذلك الجبل.التقى هيرمس هناك راعياً شابّاً لم يكن في الحقيقة إلا "باريس"، أحد أبناء "بريام"، ملكِ طروادة. وعدَتْ كلّ واحدةٍ من الآلهات الثلاث "باريس"، إذا ما اختارها، أن تهبَهُ أروعَ ما في ملكوتها: وعدتهُ "هيرا" بإمبراطورية، و"أثينا"، آلهة الفطنة والذكاء، بالمقدرات الذهنية التي ستسمح له بكسب الحروب. أما "أفروديت"، آلهة الجمال والعشق، فوعدته بقلب أجمل النساء: "هيلين". اختار "باريس"، كأي رجلٍ طبيعيٍّ في محله: "أفروديت". وكذا فاز حسب وعدها له، بقلب "هيلين"، زوجة "مينيلاس"، ملك إسبارطة، ثمّ انفجرت حرب طروادة.


لا يختلف إنسان القرن الواحد وعشرين في عصر الإنترنت 2.0 عن سلفِهِ بالطبع. يدرك ذلك كل من دخل "سوق" الفيسبوك، حيث يستعرض كلّ عضوٍ نفسَه بانتظام، عبر منشورات يضعها أمام شبكة "أصدقائه"، ضمن شبكةِ شبكاتٍ تضمُّ ملياراً وخُمسَ مليار من سكّان الأرض. ويلاحظ العضو سريعاً أنه يعيش بين أمواج من المنشورات والعروض السياسية والتجارية والثقافية والاجتماعية التي تسعى غالباً لجرّه بأذكى الطرق، المباشرة وغير المباشرة، إلى حقول الاستقطابات الثلاثة التي انطوت عليها قصّة تفاحة إيريس. وقد أدركت شركة الفيسبوك الأهميةَ القصوى لمقدرتها التأثيرية على الإنسان، والمردودات والنتائج غير المحدودة لذلك.


ولبرهان ذلك، أجرى باحثوها تجربة مثيرة: غيّروا محتويات سلسلة المنشورات التي تصل إلى 689003 أعضاء تمّ اختيارهم عشوائيًا، خلال أسبوع في شهر يناير/ كانون الثاني 2012: في النصف الأوّل منه تركوا المنشورات تعجُّ بالمشاعر الإيجابية، وفي النصف الثاني منه وضعوا منشورات تعجُّ بالمشاعر السلبية. ولاحظ الباحثون أن الأعضاء المختارين نشروا بدورهم خلال النصف الأوّل من الأسبوع، أكثر من ثلاثة ملايين منشور تطغى فيها المشاعر الإيجابية، وفي النصف الثاني كانت النتيجة مشابهة: طغت المشاعر السلبية.


النتيجة الخطيرة: تؤّثر المشاعر التي يتركها أصدقاؤنا على الشبكة في مشاعرنا وسلوكنا، وتتفشّى كالفيروسات البيولوجية من إنسان لآخر. هكذا، يمكن التأثير على مزاج الرأي العام، استهلاكيّاً أو سياسيّاً أو ثقافيّاً، بوضع كتلة هامّة من المنشورات الفيسبوكية، المتناغمة مع "المزاج" المأمول إنشاؤه. هاج بعد هذه التجربة، ضجيجٌ دوليٌّ يُجرِّم سلوك الشركة التي تستخدم منشورات الفيسبوك للتلاعب بالرأي العام وصناعته. فكان ردّها رادعاً: عند انضمام العضو إلى الفيسبوك، يوافق في "استمارة شروط الاستعمال" على عبارةٍ تقول إن من حقّ الشركة استخدام منشوراته الشخصية لدراساتها الخاصة.


ليس غريباً بعد ذلك أن تؤسّس شركة الفيسبوك مختبراً لعلوم الذكاء الاصطناعي، سيكون قريباً الأكبر دوليّاً، وسيرأسه الفرنسي يان لوكون، البروفيسور المتخصّص في التعلّم الآلي في جامعة نيويورك، الذي قاد قبل ذلك مشروعاً علميّاً لتعليم الكمبيوترِ القراءةَ الآلية لِشيكات البنوك. وهدفُ المختبر الجديد: دراسة محتوى كلّ منشورات الفيسبوك، وتعليمُ الكمبيوتر التحليلَ الآلي لمنجمها الزاخر اللانهائي، واستخلاص الدراسات، بهدف التلصّص والتأثير على الناس، ولا شكّ.


تبدو هكذا الطبيعة الإنسانية 2.0، وأساليب التأثير عليها، صيغةً لا تختلف عمّا قبل عصر الإنترنت، إلا في الأشكال والأساليب الجديدة، للإمساك بتلابيبها واستحواذها؛ لأن هموم الإنسان، أو"الحيوان الاجتماعي"، لم تتغيّر في الجوهر: فنصف سكّان الفيسبوك مثلاً، حسب دراسات باحثين أستراليين، يعانون في العمق من العزلة والوحدة، ويبحثون عن الآخر غالباً. ولهم جميعاً السلوك الفيسبوكي نفسه تقريباً: يميلون للإكثار من عرض تفاصيل حياتهم الخاصّة وصورهم الشخصيّة وأجوائهم النفسية، فراغهم العاطفي ووضعهم الاجتماعي وعناوين سكنِهم أحياناً، ميولهم وأمزجتهم الشخصية. ويعاني مدمنو الفيسبوك غالباً من كآبة جليّة، ويشكو بعضهم لطبيبه النفسي أحياناً قلّة عدد "اللايك"، ويعيش ذلك كجرحٍ نرجسي، ويعدّه دليلاً على عدم اعتراف الآخرين به وتقديره.


70% من مستخدمي الإنترنت يرون أن الإنترنت أفضل وسيلة للوصول إلى الآخر ونسج علاقة الحبّ معه، والفيسبوك في أعينهم أجدى الطرق لذلك. فليس غريباً عند قراءة كلّ هذه الأرقام والمعاناة والحاجات والرغبات الإنسانية أن يقع اختيار باريس على أفروديت.


المرأة والرجل لم يتغيّرا بالطبع؛ المرأةُ منبعُ الجذب والإغراء كما دوماً. وفريسة الاغتصاب الذكوري أيضاً، كما كانت منذ الأزل. وإن أمسى اغتصاب اليوم مصحوباً أحياناً بفيديو يوضع ذات ليلة على اليوتيوب لِتخليده، يقود إلى انتحار الفتاة في الليلة نفسها. وانتحارات جيل الفيسبوك لا تختلف كميّاً عن انتحارات من سبقهم. يموت المنتحر وحيداً حتّى وإن لمح قبل ذلك، في منشور إنذاريّ نهائي، إلى الـ18000صديق فيسبوكيّ والـ77000 متابع، بعزمِهِ على الانتحار. يموت وحيداً مثل إيما بوفاري التي تنتحر بالتسمّم في رواية "مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير، في نصٍّ جنائزيّ مهيب. تموت بعيداً عن الآخرين هي التي أعطتهم كلّ شيء أثناء حياتها، بما في ذلك سيناريو لحظة موتها التراجيدي الذي نقشه ألبيرت أوجست فورييه في لوحةٍ شهيرة وصوَّرتْهُ المسارح والأفلام.