ركبتُ مع سائق تاكسي قبل ساعات .. بدا شاردًا جدًا ، عجوزٌ رثٌ ، لم يسألني عن وجهتي ، اخبرته بها بينما أنا أغلق الباب .. و لم يجب .
بعد دقائق من الصمت الرهيب على غير عادة سائقي التكاسي في القاهرة ، جعلتُ أطلب منه التوقف لأني وصلت لشارعي و لم يجب أيضًا ،
صرخت به : بس عندك .. هنا خلاص.. إنت سامعني؟
و لا مجيب ،
نكزته في كتفه ..يا حاج إصحى لو سمحت نزلني هنا ، انتبه و أشاح بوجهه شبه الشمعي نحوي ، بلا أية تعابير هز برأسه و توقف ..
أعطيته النقود و لم يجد فكّة ليبادلني بها ، و لم يفكر حتى في طلبها ، ردّ لي ما أعطيته قائلًا : مفيش فكة ، هاتي أي حاجة !
كان في جيبي 2 جنية و المشوار سجل 5 جنيهات في العدّاد ، قلتُ له : مفيش غير اثنين جنية بس ، قال : هاتي ..
استغربتُ و أصررتُ على النزول و البحث عن فكّة انصافًا للرجل المحتاج ،
كان الفكهاني أقرب شخص لي ، طلبتُ منه ان يغيّر لي نقودي و لما أن لمح التاكسي ينتظرني حتى انفرجت كل أساريره ، و راح يلف جلبابه الصعيدي حول جسده و يهلل : " يا ألف نهار أبيض يا ألف نهار مفترج ، ده إحنا زارنا النبي "
لم يبادله الرجل بأي شغف .. بل رمقه بنظره باردة و اكتفى بالتلويح له بظهر كفه ، اعطيتُه حقه و مضى ،
أخذت أعبر عن استغرابي من تحجّر الرجل و شروده ،م ن ثم أخبرني العم محمد الفكهاني بقصته فزادت حيرتي ،
قال إنه واحد من أغنى أثرياء الرجال "بلدياته" ، ترك خلفه كل شيء .. أراضٍ زراعية و تجارة و إرث لعائلة شهيرة ، و جاء إلى القاهرة باحثًا عن شيء لا يعلمه إلاّ الله ، أو ربما هاربًا من شيء مجهول ، ظنّ الناس أنه مجنون ، و بدأت الإشاعات تحوم حوله ، لكن العم محمد يقسم أن الرجل من أحكم الناس و أعقلهم ..
لا أعرف إن كان الرجل يمارس شغفًا في التمرد على ماهيته الجاهزة التي وجد نفسه عليها ، أو ربما أنه أراد أن يعيد اكتشاف ذاته التي يمكنه صناعتها ، لا أعرف إن كان سعيدًا بهذا القدر من الحياة ،أم أنه نادم على تهوّره في لحظة لم يقدر على مراجعتها لينتهى به المطاف كسائق تاكسي شارد هكذا ، بلا عائلة و لا جاه ، و رغم كل ثروته لا بد أنه ينام الآن في نزل لأشباه المشردين في وسط البلد ..