آخر تحديث :الأربعاء-24 أبريل 2024-12:09ص

ملفات وتحقيقات


في رثاء الراحل النبيل..نبيل الخالدي

الثلاثاء - 19 أغسطس 2014 - 02:12 م بتوقيت عدن

في رثاء الراحل النبيل..نبيل الخالدي
كاتب المادة الى جانب الشاعر نبيل الخالدي

كتب / علي صالح الخلاقي

عرفت نبيل الخالدي منذ كان طالباً في المرحلة الثانوية في عام 1998م، حيث كنت استمع إلى بداياته الشعرية حين كان يلقيها ضمن النشاطات الطلابية في الطابور الصباحي لثانوية الشهيد عبدالرحمن قحطان المجاورة لكلية التربية يافع، فشدني حينها إلى موهبته الشعرية وطلبته إلى مكتبي للتعرف عليه، فشددت على يديه مشجعا، وما زلت محتفظاً في أرشيفي بنسخ مصورة لبداياته الشعرية تلك. ومنذ ذلك الحين توطدت علاقتنا الشخصية وتعززت أكثر حين التحق للدراسة الجامعية في كلية التربية - يافع، وبالقدر ذاته نمت موهبته الشعرية التي صقلتها دراسته الجامعية وقراءاته الأدبية، وأصبح يُشار إليه بالبنان بين شعراء الثورة الجنوبية الشباب وله حضوره القوي في المشهد الشعري وفي الميادين والساحات..وتَغلَب على أشعاره الأخيرة حماسته الفياضة لقضية الشعب الجنوبي التي كانت شغله الشاغل، وربما أعطاها من وقته وجهده أكثر مما أعطى لأسرته ولطفليه الصغيرين.

آخر لقاء جمعني به كان في احتفالات كلية التربية يافع بالذكرى الخامسة عشرة لتأسيسها منتصف يونيو الماضي، وكان لمشاركته الشعرية حضورها القوي، وقد خصّني بجزء كبير منها بالتهاني الصادقة بحصولي علي جائزة أحمد بن عبدالحكيم السعدي (رحمه الله) للتفوق، وتكريمي من قبل الشيخ الفاضل علي بن عبدالله العيسائي بسيارة خاصة تقديرا لجهودي المتواضعة في التأليف والتوثيق والترجمة. وأعترف أنه لم يكن  يخطر في فكري، أو يدور في خَلَدي، أن أرثي الفارس النبيل، الشاعر والثائر المقدام الذي أكمل للتو العقد الثالث من عمره،نبيل حسين عبدالرب الخالدي القعيطي (أبو سيف) الذي غادرنا في ريعان شبابه وقمة عطائه المتدفق، وعنفوان نضاله وحماسه لانتصار الثورة الجنوبية السلمية التي انغمس فيها لأذنيه مناضلا وثائرا صلبا لا يعرف الخنوع، ولا تَفلّ له عزيمة، ولا تنثني له إرادة.. وشاعرا ذو موهبة ونبوغ.... تمتّع بشاعريّة فيّاضة.. قادرة على التأثير... وإثارة العواطف.

ورغم اعباء الحياة التي أناخت عليه بكَلْكَلِها... إلا أنه كان متفائلا بالحياة، عاشقا للحرية، ولم يعفر كرامته في سبيل مال أو جاه أو مكانة. ورغم أنه من أسرة فقيرة، وتخرج من الجامعة ولم يحصل على عمل بعد، فإنه لم يتكسب بموهبة الشعرية للحصول على سقط المتاع، بل  عاش أبيا عزيزاً  يأبى الذل والعبودية ويفضل الموت عزيزا عن العيش ذليلا، وكان صادقا في ذلك..ولسان حاله يقول:

حيا حياة العز عالدنيا

وموت فيه العز يرضيني

ما عيشة الإذلال ما ابغاها

لو تجلبوا معها الملاييني

ويذكرني هنا بموقف سلفه، وعمّه الشاعر الكبير شائف الخالدي (رحمه الله) الذي نهل من ينوع قيمه في الإباء والعزة والكرامة، فقد قال قبله:

لو عادنا هُوْن ساله يقطع العُمري

 ما بَا الحياه الرذيله لا العمر مأضور

لو عشت بالعز ساعه خير من شهري

وشهر واحد ولا عدة سنه وشهور

كان نبيل شجاعا باندفاع.. صادقا في مواقفه.. نقيا في فكره وقناعاته..وكل من عرفه عرف فيه معنى النقاء والصدق والاخلاص في القول والفعل..كانت تتنازعه قوة السلاح وروح التضحية والفداء.. وقوة الكلمة المجسدة بموهبته الإبداعية التي تفجرت ينابيعها منذ وقت مبكر من حياته في سيل أشعاره المتدفقة.. وتلازمت القوتان في كثير من مواقفه. بل وتغلب نزوعه إلى النضال الميداني، واستماله السلاح أكثر.. فيما كان أحق بالقلم.. وكان له أن يناضل بالحرف الذي أجاد تحويله إلى سلاح أمضى من الرصاص..وأن يخاصم بالحرف الذي تعلق به شعرا ونثرا.. لأنه ممن منحهم الله موهبة الشعر والكتابة ، وممن يبدعون الكلمة ويحاجون ويخاصمون فيها.. وهؤلاء قلة قليلة من كثرة كثيرة ، أما مهماز نار البندقية فعمل يمكن أن يقوم به أي شخص، ولا يحتاج لملكة أو موهبة.

ولهذا طغت في أشعاره أصوات القنابل ولعلعة الرصاص وحمم البراكين وزئير الأسود..الخ .. لكنها تصب حممها وتصوب فوهاتها ضد الجور والظلم والعسف والعبودية..ضد الاستعمار والاضطهاد. وسخر شعره ونثره وفكره وحياته من أجل الحرية التي ينشدها لوطنه ولكل الشعوب التواقة لها من براثن المستبدين والمستعمرين، وجعل من نفسه جنديا لها، وكان إيمانه بحق شعبنا في حريته واستقلاله أقوى من اليأس. وليس غريبا أن كان أول إصدار له يحمل عنوان (الحرية) ونشر مطلع هذا العام. وغنى عن البيان أن الكاتب ينافح هنا عن الحرية، ويقف ضد العبودية والاستبداد، كما أن اختيار الكاتب  لموضوع الحرية -في هذا الظرف بالذات - لم يأتِ عبثاً، بل كان عن وعي ودراية، ومتناغما مع  توق شعبنا إلى حريته وكرامته واستقلاله. وأهدى عمله هذا إلى جميع الأحرار وإلى كل الشعوب والأفراد المقاومين للاستعمار والاستبداد، والرافضين لعبودية الإنسان للإنسان المقاومين من أجل الحياة الكريمة، المدافعين عن القيم أصحاب الضمير الحي.

إن كلّ امرئ ميسّر  لما خُلق له، وكان الشاعر الثائر نبيل الخالدي، الذي له من اسمه نصيب في النُبّل ودماثة الاخلاق، أحق بالحياة المفعمة بالأمل والإبداع قد يُسّر ليصول ويجول في ميدان الشعر والكتابة والتأليف، مثلما صال وجال في ساحات النضال، وكان مشروع أديب كبير وباحث وكاتب مجتهد، وقد انتج خلال السنوات الماضية عدة مؤلفات لم تُنشر بعد، ولو طال به العُمر عقودا أخرى لأثرى حياتنا الأدبية والثقافية بدرر من ينابيع موهبته..ولكن شاءت إرادة الله أن نفقده في ريعان الشباب وعنفوان العطاء الشعري والأدبي والكفاحي، ولله الحكمة فيما اختار وإليه المصير.

واختتم كلمات الرثاء في الراحل النبيل الذي عُرف بنظافة يده ولسانه وعزة نفسه بالقول: يسهل أن نجد عشرات ومئات المناضلين في الساحات، ولكن من الصعب أن نجد شاعرا وثائراً بموهبة نبيل الخالدي وبروحه المتوثبة والمقدامة التي لا يمتلكها إلا المناضلين الحقيقيين من أمثاله، ممن يضعون قضية الوطن وحريته واستقلاله فوق طموحاتهم ومصالحهم الشخصية الضيقة.

ويكفيه أنه ترك سيرة عطرة وتراثا يخلده في صفحات تاريخنا الوطني المشرق..وأدعو في هذه المناسبة إلى العناية بنشر أشعاره ومؤلفاته التي كان يطمح لنشرها في حياته، وهذا أقل وفاء لمن لم يبخل في حياته من أجل القيم التي آمن بها وقدم حياته رخيصة من أجلها.