آخر تحديث :الخميس-28 مارس 2024-10:48م

أدب وثقافة


هل تحمل الثقافة خلاصاً عربياً ؟

الجمعة - 18 أبريل 2014 - 12:59 ص بتوقيت عدن

هل تحمل الثقافة خلاصاً عربياً ؟
تقترن الثقافة الرفيعة، تعريفاً، بالمستقبل، فلا ثقافة بلا حلم يلتبس برغبة، ويرى الحس الشعبي، من حيث هو ثقافة عملية، إلى مستقبل «ينتقم» من ماضيه.

لندن((عدن الغد))الحياة:

 

لا تعتبر الثقافة في الأوساط السلطوية العربية حيزاً مهماً، ولا تعالج قضاياها بأدوات ثقافية، بمقدار ما تراقب المثقفين وتحل قضايا الثقافة بأدوات سلطوية. والثقافة عندها، في الحالات الغالبة، هي التعليم بعد اختصاره في محو الأميّة، وفقاً لقانون مدرسي شهير قوامه: التلقين والاستظهار. لهذا، تبدو الإشارة إلى الثقافة، إذا جاءت على لسان مسؤول رفيع المستوى، أمراً لافتاً للانتباه.

 

لمح رئيس جمهورية مصر عدلي منصور، في اجتماع القمة الذي عقد أخيراً في الكويت، إلى إمكان أن تلعب الثقافة دوراً في تقارب العالم العربي. يثير القول الانتباه، ذلك أنه تزامن مع صعود الخلاف والاختلاف الرسميين العربيين، وهو أمر ليس جديداً على أي حال، وجاء في سياق «الربيع العربي» الذي يعترف بعض به ويختزله بعض آخر إلى تآمر خارجي، إن لم يرَ فيه «بدعة» ليست محمودة العواقب... غير أن ما هو جوهري في القول صدوره عن مسؤول رسمي عالي المرتبة، فاجأ المثقف العربي بما لم يتوقعه.

 

والسؤال الذي لا بدّ منه: هل جاءت الإشارة إلى دور الثقافة في خطاب الرئيس المصري لغربته عن الحياة الرسمية العربية، أم إنها تعبير عن شخصية مثقفة، وصلت إلى السلطة صدفة، وبقيت مشدودة إلى القيم الثقافية؟ وهل كان في إعادة الاعتبار إلى الثقافة احتجاج على سياسات عربية رسمية أخفقت في ترميم الخلاف وتركت «الصف العربي» مصدّعاً»؟ وهل جاء القول عفو الخاطر، بسبب تربية ثقافية خاصة، أم إنه وعي بأن «الربيع العربي» لن يترك العالم العربي كما كان، وأن ما حدث فيه مستمر في الحدوث؟ ولماذا رأى الرئيس المصري «خلاصاً ثقافياً» أمام حكّام يعهدون بـ «الخلاص المفترض» إلى أدوات غير ثقافية؟

 

تهميش الثقافة:

 

كانت الأنظمة العربية، منذ ولادة «دولة الاستقلال الوطني» كما يقال، اطمأنت إلى حديث متواتر عن الأمن الداخلي والتنمية الوطنية ومجابهة الأخطار الخارجية، وإلى حديث أقل تواتراً عن حقوق شعب فلسطين، وضرورة الدفاع عن «عروبة القدس». ولعل هذا الحديث، الذي أراد مواجهة «التحديات» بمجتمع موحّد داخلياً، هو الذي همّش دور الثقافة، وارتكن إلى سياسات تزجر المعارضة الثقافية والاختلاف، وتساوي اختلاف الرأي بالخيانة الوطنية. وبسبب ملاحقة الرأي المختلف تقلّصت مساحة الحريات المختلفة، ولم يتبقّ للثقافة والديموقراطية إلا حيّز صغير، على اعتبار أن الطرفين هما هوامش نافلة.

 

كان الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا في روايته المتميّزة «السفينة» التي تأملت العالم العربي في خمسينات القرن الماضي وستيناته، قرأ مصير المثقفين العرب بفرح قليل، وقال وهو ينظر إلى نخبة متميّزة هاربة: «مع رحيل هؤلاء ترحل مرحلة كاملة». كان يشكو من خيبة أمل مريرة، توقعت من الاستقلال الوليد أمراً وسقطت على نقيضه. وفي الفترة ذاتها، وفي نهاية الخمسينات تقريباً كتب «المؤرخ القومي» قسطنطين زريق «نحن والتاريخ» شاكياً، في شكل آخر، مما شكا منه الروائي الفلسطيني، معلناً أن قومية لا ديموقراطية فيها تنتهي إلى الخراب. أعلن المثقفان بجنسين مختلفين من الكتابة عن حصار الإنسان العربي، وعن مستقبل يغاير المرتجى.

 

كان طه حسين، في فترة سبقت ولادة «دولة الاستقلال»، وضع كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، بعد أن ظفرت مصر بـ «معاهدة الاستقلال» 1936، ووحد بين التعليم والديموقراطية، واعتبر أن تعليماً تنقصه الديموقراطية عبثٌ يعيد دورة الجهل في أشكال جديدة. اشتق حسين الثقافة من احتياجات المستقبل، ورأى إلى مصر مثقفة تنشر النور في العالم العربي. وعلى غير ما توقع اشتقت «دول الاستقلال»، ومصر منها، المستقبل من احتكار السلطة، واشتقت الثقافة والمستقبل معاً من حاضر سلطوي له شكل الديمومة، ذلك أن السلطة المكتفية بذاتها تقدّس حاضرها، وتستولد ثقافة تمجد الحاضر السلطوي وتسوّغ ثباته. لم يتوقع حسين ما رآه جبرا في «سفينته»، وإن كان قد رأى ما رآه زريق وسبقه إليه، ببصيرة لا تعوزها الحكمة، جعلته يقول: «إن استقلالاً لا حداثة فيه لهو وبالٌ، الاستعمار أفضل منه»، أو ما يساوي ذلك، بحروف تنقص أو تزيد قليلاً.

 

أنهت دولة الاسقلال الوطني، بلغة جبرا، مرحلة كاملة، وأغلق الربيع العربي، مهما كانت أحواله اليوم، المرحلة التي أنهت غيرها، وجاء بثقافة تغاير إرادة الأنظمة، ثقافة لها شكل عملي، لا تكترث بتعاليم مدارس السلطة، ولا تلتفت إلى نصائح «مثفقين» يقومون بتربيع الدائرة، ولا تتوقف أمام إرشاد «الدعاة» الذين يرون صور الآخرة ويغضون البصر عن كوارث الدنيا، ثقافة تطالب، من طريق التظاهرة، بالديموقراطية والعدل والمساواة، بل إنها تطالب وتقاتل من أجل «دولة استقلال أخرى»، لا تحتكر السلطة ولا أرزاق المواطنين، بل تساعدهم على الذهاب إلى ما يطمحون إليه. وعلى خلاف تلك الثقافة القائمة على الاحتكار والتسويغ التي جمعت بين الشعارات المجردة ووسائل الإكراه المشخصة، تسلح المتظاهرون، في البلدان التي تعيش «ربيعها»، بالأصوات، إذ للصوت وظيفة غير الهتاف الموسمي البليد، وإذ للشوارع وظيفة، يعلن فيها المواطنون عن حقوقهم، قبل أن تكون أرضاً للمارة ومساحة ترتع فيها أجهزة الأمن.

 

لمح عدلي منصور، ربما، إلى «ما حدث وما سيحدث»، فما حدث مرة بانفجار كبير يتوالد ثانية، وأعاد الاعتبار إلى الثقافة، متحدثاً عن شيء يشبه «الخلاص الثقافي» الذي هو جملة قيم إنسانية عن الحرية والعدل والمساواة، لا تحتكر ولا تأتلف مع الاحتكار السلطوي.

 

ديموقراطية وحداثة:

 

استذكر الرئيس المصري، ربما، طه حسين في خلاصه الثقافي المقترح القائم على الديموقراطية والمدرسة الحديثة، وذلك في زمن راهن استعاض عن المدرسة التقليدية التي تفصل بين محو الأمية والحياة، بمدرسة غريبة ملتبسة الملامح تدعى: الحس الشعبي النقدي الذي تأتي به الحياة اليومية ويتعلم من تجاربها، مؤكداً أن التمرّد الشعبي الجمعي مدرسة تفضل غيرها من المدارس، وأن الإنسان المثقف هو الذي يطالب بالحقوق الإنسانية المتعارف عليها. أغلقت «دولة الاستقلال» مرحلة، وأغلق الربيع العربي مرحلة «دولة الاستقلال»، وأغلقت الدولة المكتفية بذاتها، الأقرب إلى السلطة منها بالدولة، مرحلة ثقافية بدت واعدة، وفتح الربيع العربي مرحلة منفتحة على احتمالات كثيرة. وإلى المرحلة الجديدة أشار عدلي منصور مستعيداً، ربما، أحلام طه حسين الذي زاوج في خطابه بين الثقافة والسياسة الثقافية، إذ الثقافة جملة مقولات متضافرة، وإذ في السياسة الثقافية ما يترجمها عملياً وينتظر وطناً وإنساناً جديدين.

 

تقترن الثقافة الرفيعة، تعريفاً، بالمستقبل، فلا ثقافة بلا حلم يلتبس برغبة، ويرى الحس الشعبي، من حيث هو ثقافة عملية، إلى مستقبل «ينتقم» من ماضيه، ذلك أن المُخضَعين يرجون مستقبلاً لا إخضاع فيه. وعلى مبعدة من ذلك تقترن ثقافة السلطة بحاضر يريد أن يكون أبدياً، وبماضٍ يسوّغ أحوال السلطة في الحاضر. لا غرابة، وعلى مقربة من المنظور الشعري للعالم، أن يكون الشعب والثقافة والحرية وحاجات الإنسان المتجددة مقولات مستقبلية سيصوغها إنسان وعى إمكاناته الإنسانية وحقّقها. وهذه المقولات هي قوام السياسة الثقافية الوطنية التي رأها طه حسين، ذات مرة، في مدرسة طليقة، وظن قسطنطين زريق أنها مقبلة مع «قومية ديموقراطية»، واعتقد المصري سلامة موسى أنها تأتي من المخابز والمصانع وتهذيب الثقافة الريفية، ومن تربية اجتماعية علمانية تعيد تعريف النواهي والمحرّمات.

 

يطرح ما سبق سؤالين لا بدّ منهما: ما هي السلطة التي ستعطي مقولات الربيع العربي الثقافية صياغة عملية؟ وهل ستحقق هذه السلطة مطالب «حشود الميدان» أم ستعيد دورة «دولة الاستقلال» الأولى التي انتهت مرحلتها؟ سؤالان لا تجيب عنهما الأفكار التي تأتي من الواقع «وتذهب إلى لا مكان». وسؤالان أتت بهما الحياة، وينتظران من الحياة أن تجيب عنهما.

 

جاء في رواية دوستويفسكي «مذكرات بيت الموتى»: «لقد اقتربنا من العجز، لأننا انفصلنا عن الحياة». والعجز العربي لا يحتاج إلى برهان، بينما تتراءى ملامح الحياة في متواليات من القيم الواعدة التي تحتقب الإصلاح الثقافي المعنوي وثقافة الحاجات وديموقراطية المجتمع وتفتّح الإنسان الذي لم يعد مبتوراً الذي لا يحتمل صفات مريضة خارجة عنه، تبدأ بالعائلة المغلقة ولا تنتهي بالطائفة التي تبحث عن نصرها في هزيمة طائفة أخرى!

 

 فيصل دراج

* ناقد فلسطيني