آخر تحديث :الأربعاء-15 مايو 2024-02:10ص

أدب وثقافة


صدى الإسلام في الأدب الأوكراني الحديث

الإثنين - 14 أبريل 2014 - 10:17 ص بتوقيت عدن

صدى الإسلام في الأدب الأوكراني الحديث
الأدب الاوكراني.

لندن((عدن الغد))القدس العربي:

 

ساهمت حركة التنوير في أوروبا وروسيا القيصرية، أوائل القرن التاسع عشر، وما كان لها من أثر عظيم في ظهور نظريات اجتماعية وآداب ونزعات ثقافية ساعية إلى التكامل في كيان هويات متنوعة تتعايش في إمبراطوريات مدنية بلغت من التطور وسعة النفوذ الطاغي برا وبحرا ما جعلها الأكثر تحكماً في مسار المعارف والثقافات الإنسانية ومالكيها.

 


ومساعي الأدباء والمفكرين الأوكرانيين ورغبتهم في تجديد الأدب والفكر القومي والانشغال العقائدي في صياغة الهوية الثقافية عبر الانفتاح على عالم الشرق و(استثارة ماضيه في تأويلات الحاضر)، وترسيخها في ثقافات الإمبراطورية الروسية الفائقة التنوع والاتساع، عرقياً ودينياً، والمنبسطة على سهول وبراري ونجاد ووديان مديدة وجبال تناطح السماء تحوطها بحار وأنهار دافقة وبحيرات وينابيع، لا عَدَّ لها، جعلت البلاد إلى اليوم أكثر بلدان المعمورة وفرة واحتياطاً في ثروتها المائية (والماء عند العارفين مصدر الحياة والجنان والوجوه الحسان!). 

 


إمبراطورية الروس هذه ضمت من جغرافية آسيا وأوروبا حواضر عريقة ومدائن زاهية وماضي غائر في التاريخ الغابر ما أغرت خصوم الأمس، وما زالت تغوي اليوم شركاء بلاد المسكوب ومنافسيها، وتجعلهم يتربصون بها دائماً لانتزاع ما أمكنهم من أملاكها، هائلة الثروات والموارد، الموزعة على بقاع مساحتها أكثر من سبعة عشر مليون كيلو متر مربع! ليس بمقدور حتى الطائرات الحديثة أن تقطعها طولاً أو عرضاً بما لا يقل عن عدد ساعات العمل الرسمي في البلاد!. إذ أن فرق التوقيت الزمني حسب القانون الروسي بين شرق روسيا الأقصى وغربها نحو تسع ساعات، فيما الفرق الطبيعي وفق الموقع الجغرافي أكثر قليلاً من إحدى عشرة ساعة!.

 


أجل لقد حثت حركة التنوير، وتلك المساعي والرغبات للنخب الأوكرانية المُجددة، على قراءة واستثمار ما توفر من دراسات وترجمات منقولة عن آداب العالم الإسلامي وإرثه الثري في نهوض البلاد اجتماعياً وثقافياً. ونرى أنَّ لجوء رواد الأدب الأوكراني الحديث إلى الموضوع العربي الإسلامي ناجم عن طبيعة المكونات الدينية- الثقافية لمجتمع قيد التشكيل، الذي لم يكن منعزلاً عن مجمل العوامل الجغرافية- السياسية، ووطأة الشعور بالحاجة إلى التغيير والتجديد في أنماط الأدب ورسالته الإنسانية، كإفراز طبيعي لهاتيك التحولات العميقة التي طالت منظومة الفكر الاجتماعي والفلسفي وأجناس الأدب في عموم أوروبا. وكان لتلك الأفكار الجديدة، غير المجردة من الميول القومية الاستبدادية، أثر ملموس في تأجيج نزاعات الاستحواذ والسيطرة على ميراث حضاري مديد لبلدان عريقة غدت يومها هزيلة ومفككة، إلى حدٍ أصبحت فيه ميدان نزاع الإمبراطوريات والثقافات القومية الناهضة منها والمائلة إلى الأُفول. وحينها ذَكَّرَت حروب نابليون التوسعية الطاحنة مع ايطاليا والنمسا وحملته على مصروبلاد الشام (1798-1801)، ومن ثم اجتياحه لروسيا وصدامه مع بريطانيا، التي أدت إلى انهيار إمبراطوريته، العالم بأهمية تلك البلدان وميراثها الثري في إعادة تعمير الثقافات الإنسانية، ومركب العلاقة الجغرافية- السياسية بينالغرب المتنوع ذاته وعلاقته كلل بالشرق الإسلامي بمجمل أعراقه وأديانه.

 

فلسطين وهداية أسلاف الأوكرانيين

في ظل هذه الأوضاع التي تتشابك فيها المشاريع التوسعية باليقظة القومية التي لا بُدَّ أن تستند إلى مقومات ثقافية- دينية عمادها الأهم إرث الماضي، لتشكيل الهوية المتمايزة للأدب الأوكراني القومي، وتحديد انتمائه من بين ثلاثة مكونات دينية- أثنية (الأرثوذكسية الروسية والكاثوليكية البولونية والإسلامية التترية- التركية)، أو ذوبانه الفيزيائي في تلك المكونات، التي تبدو رغم وجودها، منذ قرون مديدة على موطن جغرافي- سياسي تعاقبت عليه إمارات وإمبراطوريات عريقة ودول عظمى، غير قابلة اليوم للانصهار أو التمازج في تشكيل روحي أو حتى مكون علماني منسجم، ربما لعدم وجود شريعة واحدة تحكم أقوام البلاد، فضلاً عن انعزال وتزمت الكيانات العرقية والدينية وفشلها في إقامة وطن لجميع الأديان والأعراق. وربما من المناسب أن أُذكّر بتجربة لملمة الكيان الصهيوني وإصرار قادته، الأشد عنصرية وكرها للفلسطينيين والعرب وحضاراتهم من بين جميع قادة العالم المُحابين للصهيونية، غالبيتهم من بولونيا وأوكرانيا وأوروبا الشرقية بمن فيهم اليهود الروس، على يهودية الكيان ومصادرة وتدمير إرث فلسطين الحضاري الروحي والعمراني، الأكثر عمقاً وتأثيراً في تاريخ المجتمعات البشرية وثراءً في تركيبته القومية والدينية من مجمل تاريخ أوكرانيا ومكوناتها الاجتماعية.

 

بل لفلسطين يعود الفضل في هداية أسلاف الأوكرانيين إلى النصرانية إحدى الديانات السماوية الثلاث منذ أيام عاهل كييف القديمة الأمير فلاديمير(988)، هداية (الروسيين) القدامى من دياجير الوثنية إلى الأرثوذكسية، وقبلهم البولنديين إلى المذهب الكاثوليكي الذي لا يخلو من نزعات تحريضية عدائية تجاه الكنيسة الأرثوذكسية، تَشْتَدَّ دائماً وبخشونة كلما برزت قلاقل واضطرابات في البلاد وما جاورها من دول ومقاطعات، خضت أجزاء من أوكرانيا الحالية لحكمها، الأمر الذي يعيق إلى يومنا هذا تألف المكونات الدينية الأوكرانية الثلاثة (الأرثوذكسية والكاثوليكية والإسلامية)، واستقرار البلاد، التي غدت ودون مواربة رهينة صراع نفوذ اختلطت فيه الأوراق بين الأخوة و(الأعداء- الأصدقاء) يتحكم في مصير جغرافية وتاريخ وحاضر الوطن الأوكراني ضبابي المصير، ما يحتم على ذوي الاختصاص والمثقفين، لإدراك جانب هام مما يجري في ميادين وحارات ومجالس وبياع وثكنات عسكر أوكرانيا،إعادة قراءة رواية ميخائيل بولغاكوف (الحرس الأبيض)، التي تدور أحداثها في مدينة كييف وضواحيها سنوات الحرب الأهلية في عشرينات القرن الماضي.

 


التعددية أساس الهوية

 

لا شك أن التركيب الروحي- العرقي للمجتمع الأوكراني ومكوناته الشديدة التفكك ذات الولاء المتزمت لماضي، لا يقل غموضاً عن مستقبل مجهول، نقلت جزء كبير من أثاره الموروثة تلك الإمبراطوريات التي تعاقبت على حكم البلاد، حثَّ عليّة أدباء أوكرانيا وعلماءها من أطياف شتى على التعجيل في البحث عن بواعث الإبداع الخلاق، في مخزون الإرث الحضاري والإنساني لهذا المجتمع التواق إلى الحرية، وتخصيبه بما أمكن من الوصول إليه من إبداعات الآداب الشرقية-الإسلامية، وعلى نحو خاص التركية والعربية الكلاسيكية، وهم في هذا إلى حد كبير، يواصلون تقليد الأدباء والفلاسفة الألمان والروس في استثمار النتاج الأدبي- والديني العربي والإسلامي القديم في الشعر والنثر، الأمر الذي ولّدَ سلسلة أعمال شرقية أدبية وفكرية شديدة التماهي مع إبداعات الأدب العربي القديم والفكر الإسلامي، تشغل اليوم اهتمامات المختصين في علوم الأدب المقارن وحوار الثقافات والأديان. ونقل موضوعات ذات مغزى حضاري- تنويري واستثمارها في الكتابة الأدبية والبحث المعرفي. وربما لا يخلو رأيِّ من مبالغة وحماس عاطفي إن قلت، أن رواد الأدب الأوكراني التمسوا في تاريخ وسرد الفكر والأدب العربي والإسلامي ضالتهم المعينة في النزوع التجديدي في منظومة الفكر والثقافة الأوكرانية الحديثة، التي لا ينقصها الإيمان بالإنسان والحرية، والتفاعل والإثراء المتبادل بين الثقافات والمجتمعات، والصراع ضد الاستعلائية والهيمنة والتسلط. ولعل عالم الأدب المقارن إدوارد سعيد كان على حق حين قال؛ إن فكرة التعددية الثقافية أو الهجنة- التي تشكل الأساس الحقيقي للهوية اليوم- لا تؤدي بالضرورة دائما إلى السيطرة والعداوة، بل تؤدي إلى المشاركة، وتجاوز الحدود وإلى التواريخ المشتركة والمتقاطعة.

 

شغف الأوكرانيين بإرث الإسلام

وفق هذا المنظور السميح، المؤمن بأهمية شد عضد تنوع الأعراق والعقائد وتشكيلاتها الثقافية المتميزة، المكونة لنسيج الأمم والأوطان، وتشجيع التفاعل والتعايش والتأثير المتبادل فيما بينها، رغم تفاوت تجاربها التكافلية، باعتبارها ممارسة إنسانية أزلية عابرة التوزيع الجغرافي، والتي من غير الممكن تجاهل وتغاضي منافعها الفعلية الجمة، والاستغناء عن منجزها المعرفي هائل الأثر، الذي يحكم وباطراد إرادة الحضارة الإنسانية المعاصرة ورؤاها ونزعاتها الفكرية وقناعاتها العقائدية، أُروم النفاذ مجدداً إلى موضوع ممتع ذي أهمية ملحة، قليل التناول في الدوريات الأدبية والإعلامية، موصول بالتعددية الثقافية، والتفاعل المباشر بين آداب الأقوام والحضارات الشديدة التنوع. أقصد بيان واستقصاء المؤثرات العربية والإسلامية في المسرود والمروي من الأدب الأُوكراني الحديث، وأثرها في ميراث البلاد الثقافي والفني، التي تشغل حيزاً لافتاً في إنشاء ورسومات رواد الثقافة والأدب منذ أكثر من مائتي عام. وتظهر بجلاء في إرث الرَّحال الحاج فاسيلي بارسكي، والكونت ريجوفسكي، والأديب العبقري نيكولاي غوغول، والمستعرب يوليان سينكوفسكي، والشعراء المجددين تاراس شيفتشينكو، وبانتيلوس كوليش، وليسا أوكراينكا، وإيفان فرانكو, والفنان إيفان تروش، والمستشرق البارز كريمسكي وغيرهم الكثير.

 


وحينذاك مالَ اهتمام أولئك الأُدباء والمفكرين والفنانين إلى التمتع بقراءة وترجمة طيف من مؤلفات تاريخ وآداب حضارات الشرق الأدنى المدونة والشفهية، واستثمارها في إثراء أجناس الأدب الأوكراني الناهض. الأمر الذي ترك بصمات واضحة على خطاب الثقافة والأدب الأوكراني الحديث، المتعايش منذ القدم مع الثقافتين الأوروبية المسيحية (الأرثوذكسية والكاثوليكية) والعربية- التركية الإسلامية، بحكم الجوار الجغرافي والمرجعية الروحية للأرض المقدسة والكنيسة البيزنطية، والتبادل التجاري ونزاع الإمبراطوريات الروسية والعثمانية والأوروبية، ومساعي العصر وتوجهاته، وطرح أمام أدباء ومفكري أُوكرانيا، القرن التاسع عشر ومراجعها الكنسية، رؤى وموضوعات جديدة تتناغم مع تفاعلات الوثوب الاجتماعي- السياسي وتطلعات النخبة الثقافية- الأدبية في البلاد، الساعية إلى الإصلاح وتجديد معالم الشخصية القومية وانتمائها الروحي ورسالتها الحضارية، والانفتاح على آداب الشرق الإسلامي، الذي يستلزم روحاً ليبرالية تجاه العقائد والأديان الأخرى. ويمكن أن نلمس في تقدير الفيلسوف الألماني (هيردر) للقرآن الكريم ذاك الفهم الموضوعي والجديد وتلك الروح السمحة التي ولدت في أوروبا بعد قرون من النزاع والانعزال والريبة بين الثقافتين الإسلامية والغربية؛ (لو توافر للجرمان الذين غزوا أوروبا كتاب شبيه بالقرآن لما غدت اللاتينية أبداً سيدة لغتهم، ولا تفرقت قبائلهم وظلّت في كل سبيل.). 

 


شغف هؤلاء الأدباء والعلماء الأوكرانيين بالإرث الحضاري العربي،الإسلامي والنصراني، حثَّ فريقاَ متنوراً منهم إلى القيام برحلات طويلة إلى تركيا ومصر وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق وبلاد فارس. وبإمكان المتابع أن يجد في روايات وأشعار الأدباء الأوكرانيين أقاصيص وعِبَراً وطرائف اُقتبست من مؤلفات الأدب العربي الكلاسيكي، ولعل أبرزها حكايات ألف ليلة وليلة، المترجمة إلى الألمانية كواحدة من أمهات الكتب في الأدب الشعبي العالمي. كما ويمكن أن نلمس تأثيراً بالغَ القوة في تسجيلات ورسومات الرحالين لوقائع ومشاهد ممتعة عن ديار العرب التي حلّوا بها وعاشروا أقوامها، ذات أهمية تاريخية ثقافية، يمكن اعتمادها في تدوين تاريخ وعمران بلدان الشرق الأدنى ومكوناتها العرقية والدينية، بل وهرمها السياسي والإداري.

 


ومن نحو هذه الكتابات، الموثّقة والانطباعية شديدة الشغف بالأرض المقدسة وما هو موصول بتاريخ الأديان السماوية في بقاع المشرق العربي، تبرز تسجيلات الرَّحال الأوكراني التقي فاسيلي بارسكي، وعلاقاته المتينة مع بلاد العرب والترك واليونان التي تجول في أرجائها، في الربع الثاني من القرن الثامن عشر، عشرين عاماً (1724- 1744)، قاصداً الأرض المقدسة لتأدية فريضة الحج النصراني، الذي لم يكن بالأمر الهين أبداً، إذ تعرض هذا الرَّحال الزاهد إلى غارات قطاع الطرق، وقسوة المناخ ومخاطر الأوبئة، بل وغيرة زمرة من بني قومه، بمن فيهم دبلوماسيين ورجال دين، من كثرة معارفه الروحية والعلمانية، واعتزازه بتقواه وشخصيته الميالة إلى التصوف، وصلاته الواسعة بالكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية ومؤسساتها التبشيرية والتعليمية في بلاده وجوارها. كل هذه الهموم والمعاناة الإنسانية والتأملات الروحانية لم تمهل هذا الرجل التقي العيش طويلاً، إذ فارق الحياة ولم يبلغ الخمسين من عمره، بعد مضي عام على عودته من الأرض المقدسة إلى بلاده أوكرانيا عبر القسطنطينية ماراً باليونان وبلغاريا وبولونيا ووصل كييف من غرب البلاد التي تشهد اضطرابات اليوم.

 

ناظم مجيد حمود


* باحث وأُستاذ جامعي روسيا.
[email protected]