آخر تحديث :الجمعة-03 مايو 2024-09:17ص

خير جليس..

السبت - 20 أبريل 2024 - الساعة 02:06 م

سالمين سعيد بنقح
بقلم: سالمين سعيد بنقح
- ارشيف الكاتب


أعزُّ مكانٍ في الدُنى سرجُ سابحٍ
وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ
هكذا عبّر أبو الطيب المتنبي عن الكتاب وهو يهدا الشطر لم يعبّر عمّا في نفسه فحسب بل عبّر عمّا في نفوس الكثير من الناس الذين اتخذوا الكتاب صاحبًا وخليلا، فللكتاب في نفوس محبيه مكانة عظيمة جدًا وسنورد في في مقالنا هذا بعض الشواهد التي تدل على العلاقة الوطيدة بين الكتاب وصاحبه.
من أبرز هولاء الذين كانت لهم علاقة حميمية مع الكتاب ولم يتركوا القراءة في حياتهم إلا مراتٍ قليلة هو العالم المشهور ابن سيناء حيث روي عنه أنه قال: والله ما تركتُ القراءة في عمري إلا ليلتين، ليلة وفاة والدي وليلة زواجي!.
في الحقيقة وقفت طويلًا عند هذه العبارة وظللتُ أقلبها في رأسي وأكثر تأملها وفي كل مرة كنتُ أتعجبُ من حالِ هولاء العظماء الذين اتخذوا العلم والكتاب مطية وبذلوا في ذلك كل ما بوسعهم بذله، ولم يكن قصد أكثرهم من مصاحبة الكتاب الافتخار بذلك بل على العكس تمامًا، كانوا يدركون حقيقة ربما غفلنا نحن عنها ألا وهي فكرة تحرير المرء من جهله، وهذا يعيدني إلى عبارة مهمة جدًا لإمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه كان يقول: إنما تعلمتُ العلم لنفسي.
وهنا ملمحٌ مهمٌ جدًا وهو أنّ الانسان في الأصل يتعلم العلم لينفيَ الجهل عن نفسه ثم بعد ذلك إذا رأى في نفسه القدرة على تعليم غيره فعل ذلك.
وبالعودة لصلب حديثنا عن الكتاب يقول أحدٍ الشعراء الذين لامتهُ امرأته على كثرة شراءه للكتب:
‏"وقائلةٍ أنفقتَ في الكتب ما حوت
يمينك من مال فقلت:دعيني
‏لعلي أرى فيها كتابًا يدلني
لأخذ كتابي آمناً بيميني"
فلم يُفد تقريع هذه الزوجة لزوجها ومحاولاتها المستميتة في جعل زوجها يقلل من الإنفاق في شراء الكتب؛ لأنّ هذا الزوج مغرمٌ بالكتاب بينه وبين الكتب علاقة حبٍ مُستسرًا وباديا كما قال سحيم مولى بني الحسحاس.
ومما يُشجي الفؤاد تلك القصة التي تداولتها الكثير من كتب الأدب ومنها كتاب المزهر للإمام السيوطي حيث أورد القصة بإيجاز مع الأبيات التي هي موضع الشاهد:

وقال بعضهم: كان لأبي علي القالي نسخةٌ من الجمهرة بخطِّ مؤلفها وكان قد أُعْطِي بها ثلاثمائة مثقال فأبى فاشتدَّت به الحاجةُ فباعها بأربعين مثقالا وكتبَ عليها هذه الأبيات:
أَنِسْتُ بها عشرين عاما وبعتُها
وقد طال وَجْدِي بعدَها وحَنيني
وما كان ظنِّي أنني سأبيعها
ولو خَلَّدَتْني في السجون دُيوني
ولكن لِعَجْزٍ وافتقارٍ وصِبْيَة
صغارٍ عليهم تستهل شؤوني
فقلت - ولم أملك سوابق عبرتي
مقالة مكويُّ الفؤاد حَزينِ
وقد تُخْرِجُ الحاجاتُ - يا أم مالكٍ-
كرائم من ربٍّ بِهِنَّ ضَنِين
قال: فأَرْسَلها الذي اشتراها وأرسل معها أربعين دينارا أُخْرى رحمهم الله.انتهى كلام السيوطي.
وهذا البيت الأخير أصبح مضرب مثلٍ لكل ما يخرجه الانسان وهو مضطر لذلك.
والشواهد على هذا الأمر كثيرة أكثر من أن تعد أو تحصى ولكننا حاولنا أن نأتي ببعض الشواهد التي تبيّن عمق العلاقة بين الكتاب وصاحبه، فهي ليست مجرد علاقة عادية إنها اتصالٌ روحي وثيق جدًا لا تنفكُّ عُراهُ إلا بموت القارئ، ولعل من أجمل الأوصاف التي كُتبت في الكتاب هي كلمة لأبي عثمان الجاحظ رحمه الله يصف فيها الكتاب كأحسنِ ما يكون الوصف حيث قال:
"الكتابُ هو الجليس الذي لا يُطريك، والصديق الذي لا يُغْريك، والرفيق الذي لا يَمَلُّك، والمستميح الذي لا يَسْتِريثُك، والجار الذي لا يَستبْطِيك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالمَلَق، ولا يعاملك بالمَكْر، ولا يَخْدعك بالنّفاق، ولا يحتال لك بالكذب."
فهل مرّ عليك أيها القارئ وصفًا دقيقًا أجمل من هذا؟
لا أظنُّ ذلك فالبيانُ الذي أُعطي لأبي عثمان لم يُعطَ لأحد من العلماء من بعده ولنا في كُتبهِ خير دليلٍ على ذلك.
ولعلي أختم مقالتي هذه بحدثين مهمين تدل على تعلق هذه الشخصيات بالكتب، فمما يُروى عن الإمام أبي حامدٍ الغزالي أنه مات وصحيح البخاري على صدره!
وهذا يُبيّنُ لنا إلى أي مرحلة كان الإمام متعلقًا بكتابه
وكذلك الإمام ثعلب العالم النحوي المشهور قيل أنه كان منهمكًا في قراءة كتاب ما في السوق وصدمته دابةٌ من خلفه ووقع في حفرة ومات من أثر ذلك.
وكما أسلفتُ آنفًا أنّ الأمثلة والشواهد على ذلك كثيرة ولكن ما لا يُدرك كله لا يُترك كله، وكما قالت العرب: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.