آخر تحديث :الثلاثاء-14 مايو 2024-12:13ص

الكتابة.. ذلكم العذاب اللذيذ .

الإثنين - 27 مارس 2023 - الساعة 05:47 م

عبدالله سالم النهدي
بقلم: عبدالله سالم النهدي
- ارشيف الكاتب


مجلة التربية الجديدة مجلة بحجم كتاب كانت تصدر قبل الوحدة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية تهتم بالبحوث والدراسات التربوية، وكثير من الذي عاصروها ومازالوا معنا بالتأكيد يتذكرونها. 
هذه المجلة نشرت في أحد أعدادها قصة بعنوان ((القصيدة التي صفق لها الجمهور)) للكاتب والأديب المعروف عبدالله سالم باوزير تحكي عن الشاعر (( الحداثي ))الذي قال عنه النقاد جميعا ( إنهم لم يجدوا في شعره شيئا يفسرونه .. ويوضحونه للقراء فهو شعر واضح ويفسر نفسه بنفسه ).

الشاعر الحداثي تمت دعوته لإلقاء قصيدة من شعره في النادي الأدبي فاعتكف في غرفته ليكتب القصيدة ، وصادف أن زارت زوجته إلهام صديقتها سلوى زوجة الصحفي المعروف ، وبعد لقاء طويل بينهن أعطت سلوى صديقتها إلهام قصاصة ورقة مكتوبا فيها وصفة شعبية للحمل فإلهام زوجة الشاعر كانت لا تنجب. وغادرت .
خرج صديقنا الشاعر الحداثي وهو مفلس، لم يكتب حرفا واحدا ، ووجد نفسه في مأزق فالندوة الأدبية بعد قليل ستبدأ.
وجلس يتحدث مع زوجته عن المأزق الذي هو فيه ، وفجأة رأى القصاصة التي مع زوجته ، فأخذها ونظر فيها ثم يخرج من منزله على عجل متجها إلى النادي الأدبي ، وهناك قرأ مما هو مكتوب في القصاصة  وصفق له الجمهور إعجابا وكذلك النقاد الذي قالوا عن شعره ((إنهم لم يجدوا في شعره شيئا يفسرونه .. ويوضحونه للقراء فهو شعر واضح ويفسر نفسه بنفسه )).

لسنا هنا في معرض النقد، ومن ثم الحكم على نوع من الشعر ذاع صيته واشتهر، ووجد له قبولا وانتشر. نحن نريد نلتقط جزئية الكتابة ومدى قبولها .
كانت فيما مضى وسائل الإعلام والنشر محدودة ومحددة، وتخضع للرقابة الذاتية أولا ثم رقابة سلطات معنية ثانيا. ورغم مافي هذا من تقييد لحرية الرأي والتعبير إلا أنه كان له فوائده .
فالرقابة الذاتية كانت تقوم بفحص وتمحيص النص/ الموضوع القادم إليها، وتكون لها الصلاحية في التعديل والتغيير ، وكان لكل وسيلة نشر مدقق لغوي يقوم بتدقيق النص/الموضوع - الذي غالباً ما يكون كاتبه غير متخصص في اللغة العربية - ونشره وتقديمه بعد تصحيحه وإخراجه سالما من الأخطاء ، ولذا كان قلما تجد موضوعا منشورا يحتوي على تلكم الأخطاء.
أيضا كان الوعي العام للتحرير في هذه الوسيلة الإعلامية على مستوى فكري  عال - وكانت تسند المهمة للمختصين - يجعلهم يعملون عملية تتقييم لهذا النص/ الموضوع، ومن ثم يقررون، هل ينشر أم لا؟ 
ولذا كانت المواضيع المنشورة ترتقى إلى المستوى المطلوب والتي تخاطب الوعي العام والمتخصص - معا - دون ابتذال أو إسفاف.

ومع اقتحام وسائل التواصل الاجتماعي ساحة النشر - بما في ذلك  المواقع الإلكترونية - وأصبحت من وسائل النشر الأكثر انتشارا ؛ بل وأقصت وسائل النشر التقليدية، وتوقف بعضها لهذا السبب. وفي حمى الحصول على لقب (كاتب) من الكثيرين، أصبح الكل يكتب ما تفق له وكيفما اتفق، كان النشر غير المدروس للمواضيع على هذه الوسائل غير المراقبة والمتابعة قد أفرز لون من الكتابة المليئة بالأغلاط  التي لاتحتمل، وأنتج نصوصا تحمل أفكارا يتلقفها المتلقي دون أن يعي ماذا تعني؟ وما الهدف منها؟ وماذا يمكن أن تضيف له.
وصار البعض يتبارى في حشو مواضيعه بالتراكيب الدخيلة، والتعبيرات المنمقة والتي في مجملها غير متجانس، ليظهر - أو يحاول إظهار - عمق ثقافته وادعاء سعتها، حتى لتجد القارئ يحار في المقصود من هذا الموضوع، ويستشكل عليه الخروج منه بفائدة.
كما في المقابل تجد المواضيع الرخيصة - إن جاز لنا التعبير -  تكاد تكون الكلام الذي يقال في الشارع أو المجالس حول قضايا المجتمع، تؤخذ وتكتب ثم تنشر . مع فقدانها للتحليل وسبر لأغوار وطرح الرؤى بصورة يمكن تقبلها .

وفي الحالتين تجد القارئ يقرأ هذا الكم الهائل من المواضيع المنشورة دون أن يحصل منها على ثمار معرفية ، أو فوائد تضيف إلى وعيه  مادة يستفاد منها .
فكم من المواضيع التي ليس لها من حظها إلا النشر وذهابها مع الرياح دون أن يكون لها أثرا لسطحيتها ورخصها.
وكم هي المواضيع التي تنشر عصية على الفهم والهضم ؛ ولكن لا أحد يقول بذلك خوفا أن يطعن ويوصف بقلة الفهم .
وتظل الكتابة - بالنسبة للمتخصص الممتلك لأدوات هذا الفن - هي ذلكم العذاب اللذيذ الذي يعانيه ويكابد منحنيات مسلكة صعودا وهبوطا، ويظل يعمل جهده كي تخرج نصوصه، لينة غير جافة ولا مائعة، نقية صافية واضحة غير غامضة ولا مبتذلة.
وإني لأراه وهو يكتب نصوصه ومواضيه يسير على قانون الشاعر عدي بن الرقاع إذ يقول :
 وقصيدة قد بت أجمع بينها
حتى أقوم ميلها وسنادها .

ولم يعد النشر حاليا - حقيقة - معيارا لوصف (كاتب) .